في كل علاقة نمر بها، تظهر لحظة فارقة تُجبرنا على مواجهة سؤال صعب: هل نفتح باب التسامح لمن أخطأ بحقنا، أم نرسم حدوداً واضحة تضمن لنا الأمان؟ بين رغبة القلب في الصفح، وحكمة العقل التي تدعو إلى الحذر، تتولد معركة داخلية لا يراها أحد سوانا، ورغم أن الإجابة قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى، إلا أن الأمر أعقد بكثير، فالتسامح ليس ضعفاً كما يتصور البعض، والحدود ليست قسوة ولا جفاء، بل كلاهما أدوات تختلف وظيفتها باختلاف السياق والعلاقة وتجربة الألم ذاتها.
ومن هنا تأتي الحاجة إلى فهمٍ أعمق: أين يتجلى التحرر الحقيقي؟ في الغفران، أم في حماية الذات؟
المسامحة… حين يكون الصفح قوة لا انكساراً
المسامحة قرار واعٍ أكثر مما هي استجابة عاطفية. إنها قدرة على تحرير النفس من ثقل الغضب، وعلى استعادة التوازن الداخلي بعد تجربة موجعة. تشير بحوث نفسية عديدة إلى أن ممارسة التسامح ترتبط بانخفاض مستويات التوتر والقلق وتحسن الصحة الجسدية، كما تعزز النضج العاطفي والقدرة على التعامل مع العلاقات المتوترة بأكثر قدر من الاتزان.
ومن منظور الذكاء العاطفي، فإن التسامح ليس هدية تُقدم للآخرين بقدر ما هو فرصة نمنحها لأنفسنا للشفاء، فهو يساعد على:
• فك الارتباط بمشاعر الماضي المثقلة بالأذى.
• استعادة السيطرة على المشاعر.
• خلق مساحة للمصالحة مع النفس قبل التفكير في مصالحة الآخرين.
وبهكذا معنى، تصبح المسامحة وسيلة لحماية السلام الداخلي، لا تنازلاً عن الكرامة أو تجاهلاً للخطأ.
الحدود… حماية هادئة لا تعني الانسحاب
في عالم العلاقات، لا تقل الحدود أهمية عن التسامح، فهي ليست أسواراً تقام حول القلب، بل خطوطاً واضحة نضعها لنحمي أنفسنا من الاستنزاف العاطفي، وتشير تقارير بحثية حديثة إلى أن القدرة على وضع حدود صحية تُسهم في الحفاظ على الاتزان النفسي، وتمنع الاحتراق العاطفي، خصوصاً في العلاقات السامة أو المرهقة.
وضع الحدود لا يعني القسوة ولا إغلاق الأبواب، بل هو تعبير ناضج عن احتياجاتنا، إنه لغة تشرح للآخرين كيف نريد أن نتعامل، وتُعيد تعريف المسافة المناسبة التي نحفظ فيها احترامنا لأنفسنا ولهم في الوقت ذاته.
بين التسامح والحدود… أيهما يمنح راحة أكبر؟
الطمأنينة الحقيقية لا تأتي من اختيار أحد الطريقين وترك الآخر، بل من التوازن بينهما. فالتسامح يمنح دفئاً لحظياً، وتخفيفاً سريعاً لحدة الغضب، لكنه قد يكون مؤلماً إن فُسر على أنه تنازل. أما الحدود فهي ضمانة طويلة المدى للاستقرار النفسي، لكنها إن أصبحت صارمة أكثر مما يجب، قد تُبعدنا عن الآخرين وتخلق عزلة غير مقصودة.
لذلك، يكمن الحل في الجمع بينهما:
• تسامح واعٍ يستند إلى فهم مشاعرنا وليس إلى ضغط أو خوف.
• وحدود رحيمة لا تهدف إلى الإقصاء بل إلى حماية النفس.
هذا التكامل هو ما يصنع علاقة صحية، ويمنح الإنسان شعوراً حقيقياً بالأمان والسلام الداخلي.
أسئلة تتكرر دائمًا
هل تعني المسامحة قبول الإساءة؟
لا. التسامح لا يعني السماح بتكرار الخطأ، بل التحرر من أثره على النفس دون تبريره أو منحه شرعية.
كيف أضع حدوداً دون أن أبدو قاسياً؟
التواصل الواضح الهادئ هو المفتاح. لا اتهام، لا لوم… فقط حديث صريح عن الاحتياجات وما يُمكن تقبّله وما لا يمكن.
هل يمكن الجمع بين التسامح والحدود؟
نعم؛ بل هو الحل الأصح. فالتسامح يشفي القلب، والحدود تحميه.
هل الامتناع عن المسامحة ضعف روحي؟
ليس مطلقاً، ثمة جروح تحتاج وقتاً قبل أن تنضج النفس لتسامح، والضغط نحو الصفح الفوري قد يكون شكلاً من أشكال إنكار الألم.
ما الفرق بين التسامح الحقيقي والتجاهل؟
التسامح وعي وقرار، أما التجاهل فهو دفنٌ مؤقت للألم يظهر لاحقاً بشكل أشدّ.
خلاصة القول… قوة القلب أن يوازن
في النهاية، السؤال ليس: هل أسامح؟ أم هل أبتعد؟ بل: كيف أحمي نفسي دون أن أتجمّد عاطفياً؟
هذا السؤال وحده كفيل بأن يرشدنا إلى الخيار الأكثر حكمة، لأن التوازن بين الرحمة والحزم هو ما يمنح الإنسان نضجه العاطفي الحقيقي.
فلا مسامحة بلا وعي، ولا حدود بلا رحمة؛ وبينهما يولد السلام الداخلي الذي نستحقه جميعًا.










0 تعليق