بعد عشرين عامًا قضتها خلف القضبان، خرجت الأسترالية كاثلين فولبيغ إلى الحرية من جديد، ليس بفضل دليل جديد في مسرح الجريمة أو اعترافات متأخرة، بل بسبب اكتشاف جيني أعاد تشكيل القصة من جذورها، وقلب الرواية التي لطالما وُصفت بأنها “أسوأ أم قاتلة” في تاريخ البلاد.
بدأت فصول المأساة قبل أكثر من عقدين، عندما أصدرت المحكمة في عام 2003 حكمًا قاسيًا بالسجن أربعين عامًا بحق فولبيغ، بعد إدانتها بقتل أطفالها الأربعة: كاليب، باتريك، سارة، ولورا. آنذاك، استند الادعاء إلى فرضية أن تكرار الوفيات المفاجئة داخل الأسرة لا يمكن تفسيره إلا بالجريمة، مستندين إلى ما كان يُعرف آنذاك بـ”قانون ميدو” الذي لاقى لاحقًا انتقادات واسعة وأسقطت مصداقيته.
فحص القضية
ورغم إصرار فولبيغ على براءتها، ظل الحكم قائمًا، حتى بدأ العلماء خلال السنوات الأخيرة بإعادة فحص القضية بعين أكثر تقدمًا من الناحية الجينية، ففي عام 2018، أُجريت سلسلة كاملة لجينومات أطفال فولبيغ، ليتبين أن الطفلتين سارة ولورا تحملان طفرة في جين يُعرف باسم CALM2، وهو مرتبط باضطراب في تنظيم الكالسيوم داخل خلايا القلب، وهذا النوع من الطفرات سبق أن ربطه الباحثون بحالات عدم انتظام ضربات القلب، بل وحتى بمتلازمة موت الرُضع المفاجئ.
وفي المقابل، كشفت تحاليل أخرى عن أن الشقيقين كاليب وباتريك كانا يحملان اختلافًا جينيًا نادرًا في جين BSN، المرتبط في دراسات حيوانية بنوبات صرع قاتلة، هذه الأدلة العلمية لم تُثبت بشكل قطعي سبب الوفاة، لكنها قدمت تفسيرًا بيولوجيًا منطقيًا طالما غاب عن مجريات المحاكمة الأولى.
وفي عام 2021، وقع ما يقرب من 90 عالمًا على بيان يؤكد أن التفسيرات الجينية تُعد احتمالًا واقعيًا لا يمكن تجاهله، ما دفع القضاء الأسترالي إلى إعادة النظر في الحكم.
يقول الدكتور بن ليفينغز، أستاذ القانون الجنائي والدليل الجنائي في جامعة جنوب أستراليا، إن القضية الأصلية بُنيت على افتراضات أكثر منها أدلة، وعلى قناعة بأن وفاة أربعة أطفال داخل عائلة واحدة أمر “شبه مستحيل” من دون تدخل بشري، وهي قناعة أصبحت اليوم غير مقبولة علميًا.
ويشير ليفينغز إلى أن المحاكم تواجه تحديًا قديمًا في التعامل مع العلم، فالقانون يُحاكم الناس وفق معيارين لا ثالث لهما، مذنب أو غير مذنب، بينما العلم بطبيعته يقوم على الاحتمالات والفرضيات المفتوحة، ما يجعل دمج المعرفة العلمية في المحاكمات عملية شديدة التعقيد.
وفي السياق نفسه، يرى عالم الوراثة جيريمي براونلي من جامعة جريفيث، أن هذه القضية قد تشكل نقطة تحول عالمية، ويضيف أن المشكلة لم تكن في غياب العلم، بل في عدم القدرة على توظيف الاكتشافات الجينية الحديثة في مراجعة القضايا القديمة، ويقترح أن يكون للمحاكم مستشارون علميون مستقلون قادرون على توضيح هذه الجوانب التقنية للقضاة وأعضاء هيئة المحلفين، وهو نهج بدأ يُعتمد تدريجيًا في أستراليا ويأمل الخبراء أن ينتشر عالميًا.
قضية فولبيغ، التي وصفت باللحظة الفارقة في مسار تصحيح الإدانات الخاطئة، لا تُعيد فقط أمًا إلى حياتها الطبيعية، بل تعيد فتح نقاش عميق حول الدور الذي يجب أن يلعبه العلم في النظام القضائي، وكيف يمكن لخلل في فهم الأدلة البيولوجية أن يسرق حياة كاملة من إنسان بريء.










0 تعليق