الحياة فى الغابة والطريق للتحرر

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

فى عام ١٨٤٥ قرر شاب أمريكى يُدعى هنرى ديفيد ثورو، فى الثامنة والعشرين من عمره، ترك مدينته كونكورد، والتوجه إلى الغابة والإقامة فيها بعيدًا عن مظاهر المدنية فى ذلك الوقت.

كان الشاب ثورو قد تخرج فى جامعة هارفارد، بعد أن درس البلاغة والكلاسيكيات والفلسفة والرياضيات والعلوم. 

أراد ثورو التركيز على الأمور الأساسية المهمة بالنسبة له، أراد التجول فى الحقول والغابات ودراسة الطبيعة والتأمل والتفكير، وقضاء الوقت فى القراءة بدلًا من القيام بالأعمال الشاقة اليومية. قرر أن يختصر احتياجاته المعيشية فى الأساسى والضرورى فحسب، وألا يجهد نفسه ويضيع وقته فى العمل الشاق والثراء السريع، وفقًا للنمط الأمريكى التقليدى. جعل من الأسبوع ستة أيام للراحة، ويومًا واحدًا للعمل. 

ذهب إلى الغابة كى يختبر قدرته على مواجهة الحقائق الأساسية للحياة، وتعلم دروس الحياة المباشرة، أراد أن يعيش الحياة بعمق وصدق، وأن يمتص كل نخاع الحياة، أن يعيش بقوة وثبات، وأن يدرك قيمة الحياة ومعناها بعيدًا عن زوائد زخرفية، مكتفيًا بالاعتماد على الحاجات الأساسية والضرورية، بدأ ثورو تجربته فى ٣ يوليو ١٨٤٥ عندما انتقل إلى منزل صغير كان قد بناه على أرض يملكها أحد أصدقائه فى غابة صغيرة حول شواطئ بحيرة والدن، فى ولاية ماساتشوستس، وبلغت تكلفة بناء البيت ٢٨٫١٢ دولار أمريكى.

استمرت التجربة عامين وشهرين، عاش خلالها وحيدًا فى الغابات. أقرب جار له يبعد عنه ٣ كيلومترات. ومصدر طعامه ما يزرعه أو يصطاده، فعاش يزرع الفول والبطاطس ويأكل أبسط الأطعمة: الأرز ودقيق القمح والبطاطس والعسل الأسود. وعاش منفردًا بعيدًا عن المجتمع.

وخرج منها بواحد من أهم الكتب فى الأدب الأمريكى بعنوان: «الغابة Walden» أو «الحياة فى الغابات»، نشره فى عام «١٨٥٤».

سجل هنرى ثورو فى كتابه تجربته فى العزلة، وقدم العديد من الملاحظات العميقة التى تنتقد النموذج السياسى والاقتصادى الرأسمالى السائد فى الولايات المتحدة، وجعله هذا الكتاب أحد أهم الرواد فى مجال الفلسفة المُتعالية، هى فلسفة حرة مثالية وانتقائية يعتقد أتباعها أن الحالة الروحية المثالية تتجاوز الجسدية والتجريبية، وأن الفرد يحقق تلك البصيرة عن طريق حدسه الشخصى بدلًا من قناعته الدينية. من وجهة نظرهم، الطبيعة هى الشكل الخارجى للروح الداخلية، فدعا إلى التخلى عن التبذير والوهم لاكتشاف الحاجات الرئيسية الحقيقية، وصرح بأن: «التقدم الحديث، كلها أشياء خادعة، لأنها أبعد ما تكون عن إحداث تحسن حقيقى دائمًا». 

أحب ثورو الطبيعة كثيرًا، وكان سعيدًا جدًا فى عزلته، فالغابة هى المكان الطبيعى للإنسان وليست المدينة، وانتقد فى كتاباته التالية المدن بشدة، كما ينتقد الأثر المحزن الذى خلّفته مظاهر التحضر الخادعة على الإنسان والمساكن، ورأى أن تحولات وتقدم المجتمع الأمريكى ماديًا يهددان الحرية الفردية «لم يضطهدنى أحد يومًا غير ممثلى الدولة»، فقد تم حبسه لمدة يوم بعد أن رفض دفع ضريبة العقارات على مسكنه لمدة ستة أعوام، وقد سبق له أن رفض دفع ٥ دولارات قيمة رسم شهادة هارفارد، قائلًا: «ليحتفظ كل خروف بجلده»، مشيرًا إلى التقليد الذى يقضى باستخدام جلد الخروف لصنع الشهادات. 

رفض ثورو كل أشكال القيود، ونادى بالتحرر من العبودية طوال حياته، وألقى محاضرات تهاجم القوانين المتعلقة بالعبيد الهاربين، أثرت فلسفة ثورو عن العصيان المدنى على الأفكار والأفعال السياسية لأشخاص مهمين، مثل ليو تولستوى، والمهاتما غاندى، ومارتن لوثر كينج الابن.

ورغم شهرة مقاله «عصيان مدنى»، فإنه لم يكن سلطويًا، فقد كان ينادى بتحسين، لا بإسقاط الحكومة؛ إذ يقول فيها «لا أطالب بإلغاء الحكومة تمامًا، لكن بحكومة أفضل منها»، يشير اتجاه هذا التحسين نحو اللا سلطوية، ويظهر ذلك فى قوله: «هذه الحكومة أفضل حكومة ممكنة، وعندما يستعد الرجال لها، هذه هى الحكومة التى سيحصلون عليها».

وقد أسهمت كتابات هنرى ثورو النقدية والفلسفية عن الطبيعة فى تأسيس مبادئ حماية البيئة فى العصر الحديث، فقد جمع فى أسلوبه بين البلاغة الأدبية والملاحظة والخبرة الشخصية المباشرة، ما جعلها محط تقدير الكثيرين فى أنحاء العالم.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق