تعيش الساحة اللبنانية اليوم واحدة من أكثر لحظاتها حساسية منذ سنوات، وسط تصاعد القلق الشعبي والسياسي من احتمال توسّع دائرة المواجهة مع إسرائيل، في ظل استمرار الخروقات العسكرية والاغتيالات، واتساع رقعة الدمار على طول الجبهة الجنوبية.
وبين ضبابية المشهد الإقليمي وتعقيدات الداخل، يتفق المحللون على أن لبنان يقف على مفترق طرق خطير، وأن أي انفلات في ميزان القوى قد يجرّ البلاد إلى كارثة جديدة سيدفع ثمنها المواطن أولًا وأخيرًا.
في الإطار، رصدت "الدستور" آراء عدد من السياسيين والمحللين اللبنانيين الذين حذّروا من خطورة المرحلة الراهنة، مؤكدين أن حماية الدولة والمواطن أصبحت أولوية وطنية لا تحتمل التأجيل.
الجنوب بين القصف والتهجير
في السياق، قال الكاتب والمحلل السياسي اللبناني فادي عاكوم إن الشعب اللبناني، وعلى رأسه سكان الجنوب، هو الخاسر الأكبر في كل سيناريوهات التصعيد بين لبنان وإسرائيل، مشدِّدًا على أن الأوضاع في مناطق الجنوب "سيئة جدًا جدًا"، وأن كثيرًا من القرى قد دُمّرت بالكامل، بينما رفض أو عجز أهلها عن العودة إليها.
وأوضح عاكوم في تصريحاتٍ لـ"الدستور" أن ثمة مناطق ما زالت مهدَّدة بالقصف المستمر من المدفعية الإسرائيلية، التي تستهدف المدنيين ليل نهار، بالإضافة إلى استباحة الأجواء الجنوبية عبر الطائرات المسيّرة الإسرائيلية التي تكثف من تهديدات الأمن اليومي.
وأضاف أن "شبح الحرب لم يختفِ منذ وقف إطلاق النار، وما زال يلوح بقوة حتى وإن ازداد الحديث عنه في هذه الفترة"، مشيرًا إلى أن إسرائيل لا تتوقف عن استهداف عناصر مرتبطين بحزب الله بعمليات اغتيال وصفها بأنها "إعدامات ميدانية"، ما يخلق مناخًا دائم القابلية للانفجار في أي لحظة:"وإذا قررت إسرائيل توسيع نطاق ضرباتها العسكرية، فستكون كارثة حقيقية على أهالي الجنوب والبقاع وأحياء الضاحية الجنوبية في بيروت".
تراجع قدرات الدعم… والدولة غائبة
وأضاف عاكوم أن قدرة حزب الله على دعم المدنيين في هذه المرحلة أقل مما كانت عليه في الحرب السابقة؛ ففي الحرب الماضية كان الحزب يوفر مساهمات مادية وإغاثية ومساعدات عاجلة للنازحين، أما الآن فالموارد محدودة، والقدرة على سد حاجات المهجرين أقل بكثير، والمجتمعات المحلية غير قادرة على تلبية احتياجات المهجّرين أيضًا.
ولفت إلى أن الدولة اللبنانية عاجزة تمامًا عن تقديم المساعدات الضرورية بسبب العجز الكبير في الموازنة والخزينة، ما يضع العبء على المواطن الذي سيضطر إلى تدبير أموره بنفسه. وأشار إلى أن العديد من القرى المتضرّرة ستعتمد – كما حدث سابقًا – على مساعدات خارجية عاجلة من دول عربية وغربية لتأمين الغذاء واللوازم الأساسية.
وأضاف عاكوم أن "السيناريو الأخطر هو أن يبقى حزب الله في مكانه دون تراجع أو إجراءات لتهدئة الميدان؛ ففي هذه الحالة سيكون لبنان بأكمله تحت مرمى الصواريخ الإسرائيلية مرة أخرى"، متوقعًا أن "تستهدف الضربات هذه المرة مناطق حيوية وغير محصورة بمراكز تواجد الحزب، ما يفاقم الخسائر المدنية والبنى التحتية".
وختم فادي عاكوم تحذيره قائلًا إن الناس لا تريد الحرب، والمعاناة التي عاشوها خلال الحرب الماضية لا يريدون تكرارها؛ لكن الواقع الأمني والسياسي والمالي في لبنان جعل من حماية المدنيين وإعادة الإعمار معضلة كبرى، مؤكدًا أن استمرار الخروقات والاغتيالات الإسرائيلية يزيد من احتمالات الانزلاق نحو مواجهة شاملة، ما يستدعي تحرّكًا دبلوماسيًا وعربيًا ودوليًا فاعلًا لمنع العودة إلى دائرة الصراع.
التوازنات الإقليمية تحاصر الحكومة اللبنانية
من جانبه، قال الدكتور مصطفى علوش، السياسي اللبناني والقيادي في حزب تيار المستقبل، إن حزب الله بات يتعامل مع نفسه كجزءٍ من محورٍ إقليمي يمتد خارج حدود لبنان، ويرى في ارتباطه العقائدي والسياسي بهذا المحور وسيلةً لتعزيز ما يعتبره "قوة المقاومة" في مواجهة إسرائيل.
وأضاف في تصريحات لـ"الدستور": "إن هذا الارتباط جعل لبنان، وخصوصًا المناطق التي تشكل الحاضنة الأساسية للحزب، في موقع المواجهة الدائمة، بما يحمّل الشعب اللبناني أعباءً كبرى من الدمار والخسائر".
وأشار علوش إلى أن الحكومة اللبنانية تجد نفسها اليوم في موقف بالغ الحساسية، "محاصَرة بين الضغوط الدولية والإسرائيلية من جهة، واستعداد حزب الله للمضي في خياراته العسكرية من جهة أخرى"، معتبرًا أن ذلك يضيق هامش المناورة أمامها ويجعل قراراتها عرضةً لتوازناتٍ معقدة داخليًا وخارجيًا.
وأكد أن استمرار هذا الوضع دون تدخلٍ جدي من القوى الدولية لاحتواء التصعيد، قد يضع لبنان أمام سيناريوهين خطيرين: إما مواجهة داخلية مفتوحة تُهدد الاستقرار الداخلي، أو خضوع متزايد للضغوط الخارجية التي تضعف سيادة القرار الوطني.
وختم الدكتور مصطفى علوش بالقول إن "الأولوية اليوم هي حماية لبنان كدولةٍ ومجتمع، ودعم أي جهدٍ عربي أو دولي يُسهم في نزع فتيل الحرب، وتثبيت سياسة النأي بالنفس، بما يضمن بقاء لبنان بمنأى عن صراعات الإقليم".
اغتيالات لم تتوقف… وقرى ما زالت مهدّمة
إلى ذلك، قال الكاتب والمحلل اللبناني علي الأمين إن الحرب لم تتوقف منذ إعلان وقف الأعمال العدائية في نوفمبر 2024، موضحًا أن إسرائيل واصلت تجاوز الاتفاق عبر عمليات اغتيال وضرباتٍ متكررة لمواقع داخل الأراضي اللبنانية.
وأضاف الأمين في تصريحات للدستور، أن "المخاوف الحالية تنبع من إمكانية توسع الحرب وقيام إسرائيل بعمليةٍ واسعة، وهو أمر ما زال محل جدلٍ داخل الحكومة الإسرائيلية المصغّرة، بين من يرى ضرورتها، ومن يرفضها باعتبارها لن تغيّر من واقع الحال كثيرًا".
وأوضح الأمين أن إسرائيل تركز حاليًا على منع حزب الله من ترميم قدراته العسكرية والأمنية، وربما تكتفي بسلسلة الاغتيالات والضربات المتواصلة التي تُنفّذ بشكلٍ شبه يومي.
وأشار إلى أن معظم القرى المدمرة في المناطق المحاذية للحدود مع إسرائيل لا تزال مهدمة بالكامل، ويُمنع حتى الآن القيام بأي عملية لإعادة الإعمار أو السماح بعودة السكان. وقال: "هناك أكثر من 90 ألف شخص مهجر من هذه البلدات، يعيشون في مناطق بعيدة وسط شعورٍ دائم بالخطر".
وأضاف أن "المساعدات الخارجية الموعودة لإعادة الإعمار لن تصل قبل أن يُحسم ملف السلاح"، موضحًا أن المجتمع الدولي يربط تقديم الدعم المالي للبنان بتنفيذ التزامات الدولة المتعلقة بحصرية السلاح بيدها.
واختتم الأمين قائلًا إن الجميع في حالة ترقب وقلق من إمكانية تجدد الحرب، وإن الأزمة السياسية الداخلية تزيد المشهد تعقيدًا، في ظل غياب رؤيةٍ موحّدة تنقل لبنان من حالة الانقسام إلى دولةٍ واحدة قادرة على اتخاذ القرار السيادي.
دعوات برلمانية لحصر السلاح بيد الدولة
من ناحية أخرى، قالت النائبة اللبنانية نجاة عون صليبة إن "حزب الله لا يزال حتى اليوم مستفردًا بقرار الحرب والسلم بطريقةٍ مخالفةٍ للقانون والدستور"، موضحةً أن الحزب منح ثقته للحكومة مرتين على أساس البيان الوزاري الذي نصّ بوضوح على حصر السلاح بيد الدولة.
وأضافت صليبة في تصريحات للدستور: "أن الحزب لم يلتزم بما وقع عليه، بل واصل الاستقواء على الدولة، مخالفًا القرارات الحكومية، ومتذرعًا بالمقاومة التي لم تعد تستند إلى مبررٍ واقعي، خصوصًا بعد انسحاب العدو من معظم الأراضي اللبنانية".
وأشارت صليبة إلى أن "الجنوب اللبناني يعاني ظلمًا كبيرًا، فالأهالي هناك لا يستطيعون العودة إلى بيوتهم التي تدمّر في كل مرة بحجة أن حزب الله ما زال مسلحًا"، معتبرةً أن هذا النهج يضرّ بأهل الجنوب والدولة اللبنانية على حد سواء.
وقالت:"الشعب اللبناني تعب من الحروب المتكررة، كل عشر سنوات نبدأ بإعادة بناء البنى التحتية ثم تُدمّر من جديد. شبابنا يهاجر لأن لا أفق ولا أمن ولا استقرار".
وختمت صليبة بقولها إن "حزب الله مسؤول عن دمار البلد وعن استقواء إسرائيل، وعن تعطيل مؤسسات الدولة"، داعيةً إلى بناء دولةٍ عادلةٍ قوية يكون فيها السلاح حكرًا على مؤسساتها الشرعية وحدها.
سلاح حزب الله بين الدستور والواقع
وعلى صعيد مختلف، قال المحلل السياسي اللبناني خليل القاضي إن موضوع سلاح حزب الله قضية وطنية حساسة ومتداخلة سياسيًا ودستوريًا وأمنيًا، ولا يمكن تناولها بمعزل عن الإطار القانوني والظروف الإقليمية المحيطة بلبنان.
وأوضح القاضي في تصريحاته لـ"الدستور" أن مبدأ حصرية السلاح ورد بوضوح في الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف)، لكنه أشار في الوقت ذاته إلى أن الوثيقة نفسها تنصّ على حق لبنان في الدفاع عن أراضيه المحتلة بجميع الوسائل المتاحة، سواء عبر العمل الدبلوماسي أو المقاوم.
وأشار إلى أن التجاذب القائم اليوم ناجم عن قرار الحكومة الأخير المتعلق بحصرية السلاح، والذي أقر في يوليو الماضي، موضحًا أن القرار جاء تنفيذًا لورقةٍ داخليةٍ لبنانية، لكنه أيضًا تجاوب مع طرحٍ أمريكي سابق، مما أثار خلافًا حول ترتيب الأولويات.
وبين القاضي أن "بعض الأطراف ترى أنه لا يمكن البدء بتنفيذ بند حصرية السلاح قبل وقف الخروقات الإسرائيلية المتكررة، التي تجاوزت سبعة آلاف خرق منذ توقيع اتفاق نوفمبر 2024"، مؤكدًا أن كل تلك الخروقات موثقة لدى الأمم المتحدة وقوات اليونيفيل.
وقال القاضي: "الخاسر الحقيقي في هذه المعادلة هو لبنان نفسه. المطلوب أن تكون المقاربة وطنية لا فئوية، فالمقاومة تعمل تحت سقف الدولة والقانون، ولا يمكن فصلها عن معادلة الدفاع الوطني طالما هناك أرض محتلة وانتهاكات مستمرة".
وأضاف أن "قرار الحرب والسلم للأسف ليس بيد الدولة اللبنانية، بل بيد الحكومة الإسرائيلية، فيما اللبنانيون جميعًا يريدون الاستقرار وإعادة الإعمار".
المبادرة المصرية… فرصة ذهبية
وتوقف القاضي عند المبادرة المصرية الأخيرة والزيارة التي قام بها اللواء حسن رشاد إلى بيروت، معتبرًا أنها "تحمل بعدًا عربيًا صادقًا وموقفًا داعمًا للبنان وشعبه"، مؤكدًا أن اللبنانيين ينظرون إليها كفرصةٍ جدية يمكن البناء عليها.
وحذر القاضي من أن الضغوط الدولية المتزايدة على الحكومة اللبنانية في ملف السلاح قد تدفع باتجاهاتٍ خطيرة إذا لم تُرافقها ضمانات أمنية حقيقية، مشددًا على أن "المطلوب اليوم رؤية وطنية شاملة تُحقق أمرين متوازيين: حماية المواطنين من العدوان، وتمكين الدولة من بسط سلطتها".
وختم بالقول:"المبادرة المصرية تمثل فرصة حقيقية إذا ما أُحسن استثمارها، لأن الهدف ليس نزع سلاح المقاومة فقط، بل نزع أسباب المقاومة نفسها، أي الاحتلال والتهديد الدائم للبنان".













0 تعليق