الإمام الرضا عليه السلام غريب طوس.. أنفاس النور وريحانة الرسالة

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

فى فجرٍ هادئٍ من فجر المدينة المنوّرة، وفى اليوم الحادى عشر من ذى القعدة سنة 148هـ، أشرق وجه النور من بيتٍ طاهرٍ من بيوت النبوّة، حيث وُلد الإمام على بن موسى الرضا عليه السلام، سليل العترة الهادية، وامتداد الرسالة المحمدية الخالدة.
كان مولده بُشرى للأرض التى أنهكها الظلم، ونفحةً من طهر السماء التى وعدت عبادها بألا تخلو من حجّة لله قائمة.
أبوه هو الإمام موسى الكاظم عليه السلام، سابع أئمة الهدى، وأمّه نجمة الطاهرة، المرأة الصالحة التى حملت بين أحشائها سرّ الإمامة، وكانت تقول: «ما وجدت مشقّةً فى حملى به، بل كنت أسمع فى منامى تسبيحًا وتهليلًا يصدر من بطنى».

نشأة النور فى بيت النبوّة:
نشأ الرضا عليه السلام فى أفياء القداسة، بين جدرانٍ عُلّقت عليها آيات الذكر الحكيم، وتشرّبت من عبقها القلوب الزاكية، تربّى فى حجر أبيه الكاظم عليه السلام على العلم والحكمة والعبادة، حتى غدا حديث الناس بوقاره وعلمه وهو فى ريعان شبابه.
كان إذا جلس بين العلماء، خفَتت الأصوات، لأن هيبته تشعّ كضوءٍ يجلّل المكان، وإذا تحدّث سكنت العقول فى حضرة منطقه العذب، حتى قيل عنه: «ما سُئل الرضا عن مسألةٍ إلا أجاب فيها جواب العالم العارف، وكأنّ علم الأوّلين والآخرين قد جُمع فى صدره».

بحر العلم وضياء المناظرات:
حين استدعاه المأمون العباسى إلى خراسان، أراد أن يُظهره أمام العلماء لينتقص منه، فإذا بالإمام يحوّل مجالس الجدل إلى منابر هدى ونور.
وقف أمام الجاثليق النصرانى، ورأس الجالوت اليهودى، وعلماء المجوس، فبهت الجميع أمام حجّته الراسخة، كان كلامه عذبًا كجدولٍ صافٍ، يُفيض بالعقل والروح معًا.

ومن كلماته الخالدة:
- العقلُ صديقُ كلّ امرئٍ، والجهلُ عدوّه.
- من لم يشكر المُنعِمَ من المخلوقين، لم يشكر الله عزّ وجلّ.
وهكذا صار الإمام الرضا عليه السلام مدرسةً مفتوحةً للعقل والروح، ومَعلمًا يلتقى فيه الفكر بالإيمان، والعلم بالزهد، والعظمة بالتواضع.

كرمه وزهده وسموّ أخلاقه:
كان الرضا عليه السلام بحرًا فى الجود لا يُسأل فيردّ، ولا يُقصد فيُخيّب.
يُروى أنه كان إذا جلس إلى مائدته دعا خدمه وغلمانه، فيأكل معهم، ويقول: إنّ الرب واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال.
وكان من تواضعه أنه لا يمرّ على فقيرٍ إلا سلّم عليه، ولا يسمع عن محتاجٍ إلا سعى إليه بنفسه.
وفى ليالى العبادة، كان يقوم إلى الصلاة وقد غلبه الخشوع حتى تبلّ الدموع لحيته، يناجى ربّه كمن يرى الله بعين اليقين.

موقفه من ولاية العهد:
حين فرض المأمون عليه ولاية العهد، رفضها الإمام مرارًا، وهو يقول: إنّ ولاية العهد لا تُنال إلا برضا الله، وأنا لا أقبلها إلا مكرَهًا.
فاشترط ألا يأمر ولا ينهى، ولا يعزل ولا يعيّن، لأنّه لم يكن طالبًا للملك، بل كان وارثًا للنبوة لا للسلطان، وزاهدًا فى زخارف الدنيا الفانية.
بهذا الموقف، أرسى الإمام درسًا خالدًا فى الزهد السياسى، وعلّم الدنيا أن الإمامة مسئولية روحية لا منصب دنيوى.

مدائح الشعراء فى حقّه الشريف:
لقد ألهب حبّ الإمام الرضا قلوب الشعراء، فصاغوا فيه درر القصيد ودموع المدح.
قال فيه دعبل الخزاعى، شاعر أهل البيت: 
- قُبورٌ بكوفانٍ وأخرى بطيبةٍ.. وأخرى بفخٍّ نالها صلواتى
- وقبرٌ بطوسٍ يا لها من مصيبةٍ.. تُوقَدُ فى الأحشاءِ بالحَرّ ذاتى
وقال الشاعر إبراهيم الصولى:
- يا بنَ موسى الرضا، سليلَ الهدى.. أنتَ للمجدِ غايةُ المطلبِ
- ما رأتْ عينُ دهرِها مثلَ مَن.. جادَ بالروحِ دونَ كلِّ نَدِبِ

وهتف محبٌّ آخر:
- يا ابنَ الكرامِ، سليلَ الطهرِ يا أملًا.. فيك الرجاءُ، وفيك الخيرُ مُتّصِلُ
استشهاده وخلوده:
لكنّ المأمون، وقد رأى القلوب تلتفّ حول الإمام كالنحل حول الزهر، دسّ له السمّ فى العنب-وقيل فى الرمان- فمرض أيّامًا حتى فاضت روحه الطاهرة فى السابع عشر من صفر سنة 203هـ فى مدينة طوس، ودُفن هناك، فصار قبره منارةً للقلوب، ومهوى للأنفاس الملهوفة.

ومنذئذٍ، تحوّلت مشهد الرضا إلى مدينةٍ يطوف بها العاشقون، تضىء لياليها الأرواح، وترتّل فى أرجائها الدعاء والبكاء.
يا ابن موسى الرضا، يا أنفاس النور وسراج الإيمان، ما زال ذكرك فى القلوب دعاءً، وفى الدموع قصيدة، لقد رحلتَ بالجسد، لكنّ روحك باقية فى أفق الهداية، تُنير دروب السالكين، وتفيض على الدنيا من سكينة السماء.
سلامٌ على الرضا يومَ وُلد، ويومَ استُشهد، ويومَ يُبعث حيًّا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق