في الصباح الذي يشبه وعدًا جديدًا، فتحت عينيها على ضوءٍ ينساب من خلف الستائر كيدٍ حانية تربّت على قلبها، كان الهدوء يملأ المكان، لكنّه لم يكن صمتًا، بل موسيقى خفيّة تشبه نبض الحياة حين تستعيد إيقاعها.
لم تعد تفكّر في ما خسرته، بل في ما عادت تملكه «نفسها»، جلست على طرف السرير، تتأمل الغرفة التي كانت يومًا مسرحًا للعزلة، فإذا بها الآن فضاء رحبٌ تنبعث منه رائحة الأمل.
كل شيء بسيط، لكنه حقيقي، الكوب الخزفي الذي اشترته بنفسها، الستارة البيضاء التي اختارتها لأنها تشبه الطمأنينة، والزهرة اليابسة على المنضدة التي احتفظت بها لا لأنها جميلة، بل لأنها تذكّرها بأنها نجت.
كتبت في دفترها: «كنتُ أبحث عن الحب، فوجدتُ نفسي، وكنتُ أهرب من الألم، فاكتشفتُ أنه الطريق الوحيد للحرية»، تذكّرت قول فيكتور فرانكل في «Man’s Search for Meaning»: حين لا نستطيع تغيير الواقع، نُجبر على تغيير أنفسنا.
وهذا ما فعلته؛ لم تعد تكره الماضي، بل ترى فيه ملامح التحوّل، لم تعد تكره النرجسي لا لإنها سامحته بل لأنها لا تريده أن ينتصر عليها بترك ذرة كره داخل قلبها حتى وان كانت له فقلبها لم يعرف يومًا للكره طريق.
لم تعد تبحث عن العدالة في الخارج، لأنها وجدت السلام في الداخل، ثم التقطت حقيبتها وخرجت.
الشمس كانت تملأ الشارع دفئًا، والهواء يمرّ على وجهها كتحيةٍ من الكون لامرأةٍ استردّت نفسها.
خطواتها على الرصيف كانت إعلانًا خفيًا، أنها لم تعد ضحية أحد، ولا ظلّ أحد، بل امرأة تعرف طريقها، وتمشي فيه بلا وجل.
كان العالم يتحرّك بإيقاعٍ جديدٍ لا يُرهقها، رأت الوجوه، الزحام، الضحكات، واكتشفت أن الحياة لم تكن تنتظرها لتُشفى، بل كانت تنتظرها لتبدأ، لم تعد تبحث عن النور، لأنها ببساطة صارت النور ذاته، يمشي معها، لا أمامها، ينبض في عروقها، ويضيء أثرها أينما مرّت.
وهنا تذكّرت صديقتها التي قالت لها يومًا: «حين تخرجين من العاصفة، لن تكوني الشخص نفسه الذي دخلها»، فابتسمت وقالت في نفسها وهذا هو المعنى الحقيقي للنجاة.
في تلك اللحظة، أدركت أن النور لم يأتِ من الخارج، لم يسكن شمسًا أو شخصًا أو وعدًا، بل انبثق من قلبها، من قدرتها على أن تُحب وتبدأ من جديد دون خوف، رفعت رأسها نحو السماء وقالت بصوتٍ يسمعه الله وحده «اللهم شكرًا لأنك أعدتني إليّ».
ثم تابعت سيرها بخفةٍ، امرأة خرجت من العتمة، لا تحمل مرارة، ولا قيدًا، ولا سؤالًا مؤجلًا، تمشي بثقةٍ في طريقٍ يعرفها، لأنها صارت النور.
المشهد الأخير.. ميلاد الحكاية
في تلك الليلة، جلست أمام مكتبها الخشبي، تتأمل الورقة البيضاء التي تنتظرها منذ زمن.
لم تكن مجرد ورقة، بل كانت مرآةً جديدة لحياتها، تنتظر أن تُروى بصدقٍ لا يشوبه وجع، بل نضجٌ وامتنان.
مدّت يدها إلى القلم، وابتسمت، لم تكن تلك ابتسامةَ امرأةٍ نسيت، بل ابتسامةَ من تذكّرت دون ألم، أشعلت شمعة صغيرة على طرف المكتب، وبدأت تكتب أول سطرٍ في روايتها الجديدة، كانت الكلمات تتدفّق كما لو أنها كانت تنتظر هذا الميلاد منذ سنوات.
كل حرف كان خطوة نحو خلاصها، وكل جملة كانت تضيء ركنًا من روحها، كتبت: «نجوتُ من الموت لأكتب عن الحياة»، رفعت رأسها، ونظرت إلى اللهب الصغير، فشعرت أن تلك الشمعة ليست ضوءًا فحسب، بل رمزٌ لكل ما عبرته، الظلمة، والانكسار، ثم القيامة من رمادها.
كانت تعلم أن هذه الرواية لن تكون عن النرجسي وحده، بل عن المرأة التي وُلدت من بين يديه أقوى مما كانت، وبينما كانت تكتب، خيّل إليها أن النوافذ تفتح وحدها، وأن نسمة الليل تحمل رائحة البدايات لا النهايات، كأن الكون كلّه يقول لها بصوتٍ خافتٍ مطمئن: «لقد تمّ الدرس والآن ابدئي من جديد».
أغلقت دفترها بعد أن كتبت الصفحة الأولى، وطفأت الشمعة بهدوء، تاركة في الجو أثرَ الدفء لا الدخان، ثم همست لنفسها بابتسامةٍ عميقة: «ها أنا أبدأ حياةً أخرى، لا أهرب فيها من الظلام، بل أكتب منه النور».
وهنا؛ حيث تحتفل بعيد ميلادها، الموافق 17 نوفمبر 2025، أسدلت الستار على حكاية الوجع، لتُفتح فصولٌ جديدة من حكاية النور، وتذكرت مقولة الكاتب الفرنسي ألبير كامو: «في عمق الشتاء»، اكتشفتُ أن بداخلي صيفًا لا يُقهَر.. النهاية.













0 تعليق