المارد الآسيوى يسعى إلى تعزيز استقلاله المالي والتكنولوجي عن الغرب
اليوان الصيني يقود ثورة مالية عالمية من كسر هيمنة الدولار إلى بناء نظام نقدي متعدد الأقطاب
توقيع اتفاقيات مع 6 مؤسسات مالية دولية يرسّخ دور بكين كلاعب محوري في رسم ملامح المستقبل
تسعى الصين لتوسيع رقعة إمبراطورياتها التاريخية من خلال الاستحواذ الاقتصادى وبسط النفوذ المؤثر على دول العالم بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا ثم دول الاتحاد الأوروبي لمواجهة الهيمنة الأمريكية، إذ تركز بكين على بعد اعتماد عملتها الوطنية "اليوان" من قبل صندوق النقد الدولي ضمن العملات الأجنبية المتعمدة لديه.
بالرغم من أن اليوان هو أقل العملات الدولية من حيث القيمة لكنه ليس مقياسًا لضعفه، فمع ارتفاع إجمالي الناتج المحلي الصيني سنوياً بقيمة تبلغ 18.743 تريليون دولار بنهاية 2024 وفقاً لبيانات مجموعة البنك الدولي، حيث تعد الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمى فهي تسعى منذ أكثر من عقد إلى تحدي هذه الهيمنة بخطوات مدروسة بدأت من إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، إلى تطوير نظام المدفوعات عبر الحدود CIPS كبديل عن نظام سويفت العالمي وذلك من خلال منتدى لوجياتسوي في شنغهاي 2025، أعلن بنك الشعب الصيني عن توقيع اتفاقيات مع 6 مؤسسات مالية دولية، بينها بنك أبوظبي الأول والبنك الأفريقي للتصدير والاستيراد، لتوسيع شبكة تسوية اليوان إلى إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى. هذه الخطوة تُمثّل توسعًا استراتيجيًا يرسّخ دور الصين كلاعب محوري في رسم ملامح النظام النقدي العالمي القادم.
تحركات الصين لتنفيذ تلك الاجراءات لم تكن صدفة ولكنها جزء من خطة طويلة المدى تهدف إلى بناء نظام نقدي عالمي أكثر توازنًا واستقلالًا، يعكس التحولات الكبرى في موازين القوى الاقتصادية بين الشرق والغرب، إذ استهدفت بكين خلال العقود الثمان السابقة لإزاحة الدولار من النظام العالمي المالي والذي استحوذ في وقت سابق على أكثر من 58% من احتياطيات البنوك المركزية و80% من المعاملات التجارية العالمية.
بحسب تقارير رسمية والتي أظهرت انخفاضًا في أداء الدولار أمام اليوان الصيني الذي صعدت قيمته بنسبة 0.129% مسجلًا 7.1 يوان ففي ظل التحولات الاقتصادية والجيوسياسية العميقة، تواصل الصين رسم معالم النظام المالي العالمي الجديد عبر استراتيجيات متعددة، أبرزها تدويل عملتها الوطنية «اليوان» وإطلاق منظومات مدفوعات رقمية متقدمة تتجاوز هيمنة الدولار الأميركي ونظام “سويفت”.
اليوان الرقمي لمواجهة سويفت
تستهدف بكين من خلال تعزيز علاقاتها مع دول الجوار الأسيوي والمنطقة العربية لإطلاق منظومة دفع إلكترونية تعتمد على اليوان الرقمي " Digital RMB " بالتعاون مع 16 دولة أسيوية وعربية، حيث يعتمد النظام الجدييد على تقنية بلوكتشين و يساعد على تسوية المدفوعات بشكل لحظي.
أظهرت تقارير دولية وتحليلات الخبراء أن اليوان الرقمي لم يعد مجرد أداة مالية، بل هو مشروع سياسي واستراتيجي يعزز استقلال الصين النقدي ويمكّنها من تمويل مبادرات مثل الحزام والطريق وصفقات الطاقة الإقليمية بمعزل عن الرقابة الغربية، خصوصاً بعد اجراءات الولايات المتحدة الأمريكية منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وفرض عقوبات مالية واقتصادية على روسيا وعزلها من نظام سويف العالمي وكذلك إيران.
ووقعت الصين نظام ثنائيا للدفع الإلكتروني مع روسيا يقضي بتيسير المدفوعات الرقمية لمواجهة الاجراءات الأمريكية.
صراع الولايات المتحدة مع الصين
تواجه الولايات المتحدة الأمريكية تداعيات اجراءاتها تجاه الصين والتي تضمن فرض رسوم جمركية باهظة عل الواردات الصينية واستمرار التصعيد بين الجانبين الذى هدأ قليلاً بعد لقاء الرئيسين الأمريكى والصينى أول أمس الخميس، فخلال الأسبوع الماضي صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على موقع التواصل الإجتماعي تروث سوشيال بأن بلاده تدرس زيادة هائلة في الرسوم الجمركية على واردات الصين وبالتالي لايوجد أي مبرر لمقابلة نظيره الصيني شي جين بينج في كوريا الجنوبية خلال المشاركة بفعاليات منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي (أبيك)، وهو ما يعني استمرار التصعيد في الحرب الاقتصادية بين الجانبين
وزعم "ترامب" خلال تصريحاته بأن بكين ترسل رسائل لدول العالم بإعتزامها فرض ضوابط على صادراتها بكل عناصر الانتاج المتعلقة بالمعادن الأرضية النادرة
اعتبر محللون أن التوترات الأمريكية الصينية الجديدة بمثابة حروب تجارية إذ تشمل قطاعات إستراتيجية مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، مع ما يحمله ذلك من انعكاسات سلبية على الاقتصاد العالمي؛ فمع تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقاليد الحكم الأمريكي في يناير من العام الجاري والتي اتخذ سلسلة جديدة من العقوبات الأمريكية على الصين شملت رفع رسوم جمركية بنسبة 25 % على وارادت المكسيك و كندا و 10% و20% رسوما جمركية جديدة علي الورادات الصينية إذ اعلن عن رفع الجمارك على ورادات الصين بنسبة تصل 125% لتصل حاليا 145%.
وخلال مايو الماضي دخلت الصين والولايات المتحدة في تهدئة للاجواء الاقتصادية بعد محادثات جنييف حيث تم الاتفاق على منح فترة 90 يوما بواقع 3 شهور للتوصل لاتفاق بمزيد من المحادثات ثم لقاء اخر في ستوكهولم بالسويد خلال يوليو الماضي للاستمرار في تمديد المهلة.
آفاق جديدة في الشرق الأوسط ودعم الاقتصاد المصري
من المعروف أن الصين تعوض حالة التضييق التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية عليها بعد فرض عقوبات اقتصادية عليها والتي من بينها زيادة الأعباء الجمركية على وارداتها، فركزت على منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا حيث تقدر جملة الورادات الصينية التي تغطي المنطقة بأكثر من 70% .
تمتلك الصين علاقات قوية مع مصر خصوصًا على الساحة الاققتصادية حيث أعلنت بكين قبل أيام إعفاء كافة الواردات المصرية من الرسوم الجمركية، وهو ما اعتبره المحللون فرصة كبيرة لتوثيق التعاون وتعويض الخسائر المفروضة بفعل العقوبات الأمريكية.
من جانبه، قال الدكتور مدحت نافع، عضو لجنة الاقتصاد الكلي برئاسة مجلس الوزراء، إن الحرب الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة لم تعد مجرد صراع تجاري، بل أصبحت محورًا لتحولات استراتيجية في النظام العالمي، تشمل التكنولوجيا والطاقة والتمويل والنفوذ الجيوسياسي.
وأضاف في تصريحات له أن السياسات الحمائية الأمريكية، خصوصًا مع احتمالية ولاية ثانية للرئيس ترامب، تهدف إلى إبطاء صعود الصين الاقتصادي، بينما تعمل بكين على تعزيز استقلالها المالي والتكنولوجي عن الغرب.
وأشار نافع إلى أن جذور الصراع بدأت في 2018 مع فرض ترامب تعريفات جمركية ضخمة على واردات صينية، وردّت بكين بإجراءات مضادة، ما أدى إلى اضطرابات في التجارة العالمية وتباطؤ النمو وارتفاع التضخم. كما تحوّل الصراع إلى مواجهة استراتيجية تشمل التكنولوجيا والتمويل والأمن القومي، حيث فرضت واشنطن قيودًا على شركات التكنولوجيا الصينية والصادرات الحساسة، فيما عززت الصين اكتفاءها الذاتي ومبادرات مثل "الحزام والطريق" وتوسيع استخدام اليوان.
وأكد نافع أن الحرب الحالية تشبه إلى حد بعيد الحروب التجارية الأمريكية اليابانية في الثمانينيات، لكنها أكثر تعقيدًا بسبب قوة الصين الاقتصادية والجيوسياسية، وأسهمت في تراجع دور منظمة التجارة العالمية وظهور تكتلات اقتصادية جديدة مثل "بريكس" و"الاتحاد الاقتصادي الأوراسي"، ما يمهّد لنظام اقتصادي متعدد الأقطاب.
ولفت نافع إلى أن الحرب التكنولوجية أصبحت محورية، مع سيطرة الولايات المتحدة على صادرات الرقائق والتحكم في شبكات التكنولوجيا، ورد الصين بالتحكم في صادرات مواد حيوية، وهو ما يعكس تحول الصراع إلى مستوى يؤثر على الأمن الصناعي العالمي. وأشار إلى أن استخدام الدولار ونظام “سويفت” أداة ضغط أمريكية، بينما تسعى الصين لتعزيز استخدام اليوان الرقمي وتحالفاتها الاقتصادية، ما يمهد لتعدد مالي عالمي قد يقلل من هيمنة الدولار.
وأضاف أن السياسات الحمائية أثرت سلبًا على الاقتصاد الأمريكي نفسه، حيث سجلت الولايات المتحدة انكماشًا في الناتج المحلي وارتفاع العجز التجاري، بينما تكبدت الشركات خسائر كبيرة بسبب اضطراب سلاسل الإمداد. كما أدت الحرب الاقتصادية إلى اضطراب سلاسل التوريد العالمية، خصوصًا في قطاعات الإلكترونيات والطاقة والسيارات، ما دفع العديد من الدول لاعتماد سياسات تصنيع محلي.
أما عن تأثير الحرب على مصر، فأوضح نافع أن التوترات الاقتصادية العالمية أثرت على تكلفة الاستيراد والاستثمار الأجنبي وتدفقات التمويل، لكن انضمام مصر إلى "بريكس" في 2024 يفتح آفاقًا جديدة للتعاون مع الاقتصادات الصاعدة وتنويع الشركاء بعيدًا عن الهيمنة الغربية.
وأضاف أن مصر مطالبة بتبني سياسة اقتصادية متوازنة تحفظ مصالحها مع الصين وأمريكا، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا والطاقة الخضراء والبنية التحتية الرقمية، مع تطوير أدوات السياسة النقدية لمواكبة التحولات المالية العالمية.
وأكد "نافع" أن الحرب الاقتصادية بين الصين وأمريكا مؤشر على تحول النظام العالمي نحو التعددية المالية والتكنولوجية، وأن على الدول النامية استثمار قدراتها الإنتاجية والتكنولوجية لضمان موقع متقدم في الاقتصاد العالمي الجديد.
















0 تعليق