وجوه منسية على أرصفة الوطن... سيرة المشردين في ذاكرة مصر

في محاولة جادة لإعادة قراءة التاريخ الاجتماعي المصري من منظور إنساني، صدر مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن سلسلة "تاريخ المصريين" (العدد 407)، كتاب "صفحة من التاريخ الاجتماعي لمصر: الأحداث المشردون في النصف الثاني من القرن العشرين" للباحثة راندا فيصل محمد مصطفى، والذي يُعد من الدراسات القليلة التي تناولت قضية المشردين بوصفها أحد أهم التحديات الاجتماعية التي واجهت المجتمع المصري على مدار العقود الماضية.

يتناول الكتاب، الذي يمتد على أكثر من مائتي صفحة، ظاهرة الأحداث المشردين في مصر خلال النصف الثاني من القرن العشرين، مسلطًا الضوء على أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وما صاحبها من تحولات كبرى في بنية المجتمع المصري بعد ثورة يوليو 1952، مرورًا بمراحل الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، وحتى مطلع الألفية الجديدة.

778.jfif

في مقدمته، ترى الكاتبة أن قضية التشرد من أخطر المشكلات الاجتماعية التي واجهت الحكومات المتعاقبة منذ منتصف القرن الماضي، إذ إنها لا ترتبط فقط بانحراف السلوك أو غياب الرعاية، بل تمثل تهديدًا مباشرًا لبنية الأمن الاجتماعي ومؤشرًا على أزمات اقتصادية وثقافية ممتدة. 

وتصف الباحثة الظاهرة بأنها "مرآة عاكسة" تكشف ما يعانيه المجتمع من اختلالات في منظومة القيم والعدالة والتنمية.

يقع الكتاب في أربعة فصول رئيسية:الفصل الأول ويستعرض الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر بين عامي 1948 و1952، وهي المرحلة التمهيدية لبروز الظاهرة في صورتها الحديثة، أما الفصل الثاني يتناول مظاهر انتشار الأحداث المشردين خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وأسباب تفاقم الظاهرة في ظل المتغيرات السياسية والاقتصادية، ويقّدم الفصل الثالث دراسة إحصائية دقيقة حول انتشار الظاهرة في محافظات الجمهورية بين عامي 1949 و2000، مع تحليل للبيانات الرسمية وتقارير الأجهزة الحكومية، بينما يناقش الفصل الرابع جهود الدولة والمجتمع المدني في مواجهة الظاهرة، والسياسات الحكومية التي تبنّتها مؤسسات الرعاية الاجتماعية، ودور وزارة الشؤون الاجتماعية في وضع الخطط الإصلاحية.

تستند المؤلفة في دراستها إلى منهج علمي توثيقي يجمع بين التحليل الكمي والوصفي، معتمدة على وثائق دار الوثائق القومية والمراجع الرسمية، إلى جانب عدد كبير من الدراسات الاجتماعية والإحصاءات الحكومية. وتُبرز في بحثها كيف تعاملت الأنظمة السياسية المختلفة مع فئة المشردين بين الاحتواء والتجاهل، وكيف انعكست التحولات الاقتصادية على مصائر آلاف الأطفال الذين وجدوا أنفسهم خارج المنظومة التعليمية والاجتماعية.

وتشير الكاتبة إلى أن اختيار عام 1949 كنقطة انطلاق للدراسة لم يكن عشوائيًا، إذ شهد هذا العام صدور القانون رقم 124 لسنة 1949 الخاص بالأحداث المشردين، بينما يُعد عام 2000 نهاية الفترة المدروسة، حيث شهد إطلاق "عقد الطفل الثاني" في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، كجزء من جهود الدولة لتحسين أوضاع الأطفال في مصر.

الكتاب لا يكتفي بعرض الظاهرة في بعدها الاجتماعي فقط، بل يتناولها كـ انعكاس للتحولات الكبرى في المجتمع المصري، من الأزمات الاقتصادية والسياسات الحكومية إلى التغير في القيم والمفاهيم الأسرية. وبذلك يقدم قراءة متكاملة تربط بين الحدث الاجتماعي والسياق التاريخي الذي أفرزه.

من خلال هذا العمل، تؤكد رائدة فيصل أن المشكلات الاجتماعية ليست قضايا هامشية، بل هي شواهد حية على مسار التنمية والتحول في أي مجتمع، وأن فهم ظاهرة كالتشرد يساعد في إعادة بناء رؤية الدولة تجاه العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

بهذا الطرح، يقدّم الكتاب إضافة نوعية للمكتبة العربية في مجال التاريخ الاجتماعي والتوثيق الإنساني، جامعًا بين البحث الأكاديمي الصارم والرؤية الإنسانية العميقة، ليُعيد إلى الواجهة قضية ظلت مهمّشة رغم عمقها وتأثيرها في تكوين المجتمع المصري المعاصر.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق الرئيس السيسي: مصر اليوم تمثل فرصة حقيقية وملموسة أمام مجتمع الأعمال الأوروبي
التالى وزير السياحة والآثار يلتقي نظيره الأنجولي في بروكسل