داعش وموسم الحج.. خطاب العنف والتوظيف السياسي للدين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في عددها رقم 498، الصادر يوم الخميس 5 يونيو 2025، نشرت صحيفة النبأ، الذراع الإعلامية لتنظيم «داعش»، افتتاحية بعنوان لافت: «بين الجهاد والحج». العنوان نفسه يكشف نية الموازنة، بل المفاضلة، بين ركن من أركان الإسلام وبين ممارسة قتالية عنيفة تسعى الجماعة إلى تديينها وتقديمها كعبادة متفوّقة. توقيت النشر، المتزامن مع يوم الوقوف بعرفة، يحمل دلالة دعائية واضحة تهدف إلى اختطاف اللحظة الروحية الجامعة للمسلمين، وتحويلها إلى لحظة تعبئة وتحريض.

في الافتتاحية، يبرز "داعش" خطابه القديم بثوب جديد، حيث يعيد تقديم الجهاد القتالي بوصفه ليس فقط فريضة مشروطة بوجود تهديد أو عدوان، بل كعبادة دائمة ومقدّمة على سائر العبادات، بما فيها الحج. هذا الترتيب المقصود لأولويات التدين يسعى لتغليب منطق السلاح على منطق السجود، والقتال على القربان، عبر آلية فقهية انتقائية تُقصي الاعتبارات السياقية والتاريخية، لتعيد قولبة النصوص الدينية في خدمة مشروع عنيف مغلّف بلغة التعبّد.

افتتاحية النبأ لا تُخاطب فقط قواعد التنظيم أو المتعاطفين معه، بل توجه خطابها أيضًا إلى عموم المسلمين، محاولة التأثير في البنية العاطفية والروحية المرتبطة بموسم الحج، لتقديم الجهاد العنيف كطريق أسرع وأعلى أجرًا إلى الجنة. هذه المقارنة المفتعلة بين ركن الحج وسلاح الجهاد ليست مجرد تفضيل فقهي، بل إعادة برمجة كاملة للذهنية الدينية، تجعل من العنف خيارًا روحانيًا، بل واجبًا ملحًّا، وتُظهر من لا ينخرط فيه كمن قصّر في دينه.

ينطلق هذا المقال من ضرورة قراءة هذا الخطاب لا بوصفه رأيًا دينيًا منعزلًا، بل كجزء من ماكينة دعائية متكاملة تستهدف إنتاج قناعات وتحريك سلوكيات على الأرض. لذلك، يسعى التحليل إلى تفكيك بنية هذا الخطاب، والكشف عن آلياته البلاغية، وسياقاته الزمانية والسياسية، وما يخفيه أكثر مما يُظهره. كما يسلّط الضوء على الأثر التجنيدي لمثل هذه الرسائل، وعلى الضرورة العاجلة لمواجهتها ليس فقط أمنيًا، بل بفكر نقدي ديني رصين، يقطع الطريق على محاولات تديين العنف وتسييس العقيدة.

جاءت افتتاحية النبأ في عددها رقم ٤٩٨ متزامنة مع الأيام العشر من ذي الحجة، وفي ذروة التحضير لموسم الحج، وهو أحد أبرز المحطات الروحية في الوجدان الإسلامي. لا يمكن اعتبار هذا التوقيت مجرد مصادفة؛ فالتنظيم يدرك تمامًا أن هذه اللحظة تمثّل ذروة التدين الشعبي والجماعي، حيث تتوحّد مشاعر المسلمين حول العالم في طقس تعبدي جامع، يعكس معاني السلم، والتجرد، والخضوع لله.

من الناحية المكانية، يُقصد موسم الحج إلى مكة، كأقدس بقاع الأرض لدى المسلمين، حيث تتوافد الملايين في حدث سنوي يوصف بأنه "مؤتمر الأمة" أو "ملتقى الوحدة الإسلامية". هذا المعنى الروحي والجماعي، بما يحمله من رمزية للسلم والتقارب، يقف على النقيض من سردية "داعش"، التي تقوم على الصراع والانقسام. ومن هنا، يسعى التنظيم إلى نزع القداسة عن هذا الحدث، أو على الأقل إلى تهميشه، من خلال رفع راية الجهاد القتالي كبديل "أعلى منزلة" من الحج.

اختيار هذا التوقيت بالذات يحمل دلالة مزدوجة: من جهة، يسعى التنظيم إلى استثمار الحالة الشعورية العالية للمسلمين تجاه الدين والعبادة، لإعادة توجيهها نحو "فريضة القتال". ومن جهة أخرى، فإنه يوظّف شعيرة الحج كخلفية تضخيمية للرسالة، بحيث تظهر الدعوة للجهاد كأنها أكثر التزامًا وصدقًا من "حج لا يُغيّر الواقع"، بحسب منطقه. هذا التلاعب بالرموز الدينية الكبرى هو أحد أخطر أدوات الدعاية الجهادية، لأنه يخترق مناطق من الوجدان يصعب تحصينها فقط بالمنطق.

ضمن هذا السياق الزمني والمكاني، يحاول "داعش" أن يعيد هندسة أولويات الفرد المسلم: فبدلًا من أن يكون الحج ذروة التعبد الفردي والجماعي، يتم الترويج للجهاد المسلح كذروة الإسلام و"مناط الفلاح" في الدنيا والآخرة. إنّ التنظيم هنا لا يناقش حكمًا فقهيًا مجردًا، بل يسعى إلى غرس تصور بديل للتدين نفسه، تكون فيه "أرض المعركة" أعلى قُدسية من أرض الحرم، و"سفك الدماء" أعلى منزلة من الطواف والسجود. هذا الانزياح في منظومة القيم الدينية هو جوهر المشروع الدعائي لداعش.

تحليل بنية الخطاب ودلالاته

تعتمد افتتاحية النبأ على استراتيجية شيطنة "الخصم الداخلي"، والمقصود هنا علماء الدين الرسميون والمؤسسات الدينية الوطنية، خصوصًا تلك الناشطة في السعودية. يتم توصيف هؤلاء بـ"مشايخ الطاغوت" و"دعاة الإرجاف"، وهي أوصاف تُستدعى من قاموس الجهادية السلفية لتجريد هؤلاء العلماء من شرعيتهم الدينية، بل وتحويلهم إلى أدوات قمع بيد "الطواغيت". هذا الهجوم الخطابي ليس هدفه فقط الطعن في مصداقيتهم، بل تفريغ الساحة من أي مرجعية دينية تنافس التنظيم في التأثير على وجدان المتدينين، وتوجيه الخطاب الديني بشكل رسمي أو وسطي.

تذهب الافتتاحية بعيدًا في تأصيل العنف باعتباره تكليفًا شرعيًا غير مرتبط بالظروف أو بسلطة الدولة. يتم انتقاء أحاديث نبوية وفتاوى تراثية قديمة، دون أي سياق زمني أو فقهي، لتقديم الجهاد القتالي باعتباره "فريضة عينية"، لا تسقط أبدًا ولا تتأثر باعتبارات المصلحة العامة أو ترتيب الأولويات في الإسلام. من خلال هذا الخطاب، يسعى التنظيم إلى خلق نمط تعبّدي جديد، يكون فيه حمل السلاح ضد "العدو القريب" أو "المرتدين" هو التعبير الأعلى عن التقوى، ما يعكس محاولة إحلال الجهاد المسلح محلّ الشعائر التعبدية السلمية.

تُظهر الافتتاحية براعة دعائية في اللعب على المفاهيم: فالحج، وهو ركن من أركان الإسلام، يُختزل إلى "فعل فردي قاصر النفع"، في حين يُضفى على الجهاد طابع "النفع المتعدي"، أي الأوسع أثرًا على الأمة ومصيرها. بهذا المعنى، يتم قلب سلّم الأولويات الإيمانية، ليتحوّل الجهاد إلى ذروة التعبّد، والحج إلى فعل ثانوي. هذه المفاضلة الزائفة تهدف إلى دفع الشباب المسلم نحو الميدان القتالي، بدلًا من التفرغ للعبادات أو التعليم أو العمل العام، ويتم تقديم ذلك في قالب شرعي يبدو مألوفًا من حيث الألفاظ، لكنه مفخخ من حيث الدلالة.

في سبيل تعزيز هذه المفاضلة، تستحضر الافتتاحية أقوالًا مأخوذة من كتب التراث لعلماء مثل ابن تيمية وابن قدامة المقدسي وابن النحاس الدمشقي، وتُقدَّم كما لو كانت فتاوى مطلقة تصلح لكل زمان ومكان. غير أن هذا التوظيف الانتقائي يتجاهل تمامًا السياقات التي قيلت فيها تلك الأقوال، وغالبًا ما يُبتر النص من سياقه التاريخي أو المذهبي ليُعاد توجيهه في خدمة المشروع الداعشي. هنا تتجلى براعة التنظيم في "تفخيخ النصوص"، أي استخدامها كسلاح أيديولوجي مموّه بلباس ديني، لتكريس ثقافة العنف بوصفها الوجه الحقيقي للإسلام، في ذهن من يتأثر بخطابه.

ما يُقال وما يُسكت عنه

في الوقت الذي تستفيض فيه الافتتاحية في تمجيد "فضل الجهاد" ومكانته في الإسلام، تتجاهل تمامًا سؤالًا جوهريًا: من يمتلك شرعية إعلان الجهاد؟ لا تتطرّق إلى وجود سلطة شرعية جامعة – سواء كانت دولة معترفًا بها أو إمامًا عادلًا – بل تتجاوز ذلك كله لتمنح التنظيم سلطة مطلقة في تحديد العدو، وتوقيت القتال، وأساليبه. هذا التجاهل ليس بريئًا، بل يُسهم في شرعنة الفوضى، ويمنح الأفراد والجماعات هامشًا واسعًا لارتكاب العنف تحت غطاء ديني.

يُفترض أن الجهاد، في التراث الفقهي الإسلامي، محكوم بشروط صارمة وضوابط دقيقة، منها القدرة، وضمان عدم الإضرار بالمستضعفين، والتزام الأخلاق في القتال، ووجود إذن من ولي الأمر الشرعي. إلا أن هذه الضوابط تغيب تمامًا في خطاب النبأ، حيث يتم تصوير الجهاد كمهمة فردية عاجلة، لا تحتاج لإجماع أو تنظيم أو تأطير قانوني أو أخلاقي. هذا التغييب يفتح الباب أمام النزعة العدوانية، ويمنح التنظيم أداة جاهزة لتعبئة أفراده دون رادع فقهي أو قانوني.

ما يُلفت في الخطاب الداعشي – وتحديدًا في هذه الافتتاحية – هو الصمت الكامل عن حرمة دماء الأبرياء، والحديث عن العواقب الكارثية لسفك الدماء بغير حق. لا ذِكر لآيات تحرّم قتل النفس، ولا لأحاديث "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم بغير حق". يتم القفز على هذه الثوابت الأخلاقية والشرعية عمدًا، ليُقدّم الجهاد كفعل خالص من أي محاسبة دينية، بل كعبادة لا تُسأل عن تبعاتها. هذا الصمت يُعدّ تواطؤًا مقصودًا مع الفوضى، ويساعد على تسويق الجرائم بوصفها "فتوحات".

لا تكتفي الافتتاحية بتغييب الضوابط، بل تصمت أيضًا عن الخلاف الفقهي التاريخي حول مفهوم الجهاد، وأنواعه، ومتى يكون فرض عين أو كفاية، وما العلاقة بينه وبين الإمام أو الخليفة الشرعي. في التراث السني، رُبط الجهاد دائمًا بوجود إمام عادل أو دولة شرعية، وهي شروط لا تتوفر في جماعة مثل "داعش" التي نصّبت نفسها بديلًا عن الأمة بأسرها. هذا التجاهل يخدم هدفًا استراتيجيًا: إلغاء المرجعية الجماعية، وتكريس احتكار الجماعة لسلطة الفتوى والقتال، في تحوّل خطير من الفقه إلى الأيديولوجيا.

تحليل الجمهور المستهدف

تُظهر الافتتاحية توجهًا متعمدًا نحو جمهورين مختلفين في آن واحد، ما يعكس استراتيجية "داعش" في توسيع دائرة تأثيره. أولًا، هناك الخطاب المباشر للنواة المتشددة التي تشكل العمود الفقري التنظيمي، وهم الأفراد الذين يمتلكون خلفية معرفية بالتراث الجهادي ويبحثون عن تأكيدات دينية لتعزيز مشروعية أعمالهم القتالية. هذا الخطاب يركز على التأصيل الفقهي والتاريخي للجهاد، ويعزز الشعور بالواجب الديني الذي لا يحتمل التأجيل أو التسويف.

في المقابل، تُستخدم لغة أقل تعقيدًا وأكثر جاذبية لاستهداف الجمهور العام، وبخاصة الشباب الذين يعيشون في بيئات متوترة سياسيًا واجتماعيًا، حيث يعاني الكثير منهم من إحساس بالخذلان أو الغربة الدينية. هنا يتحول الخطاب إلى أداة استقطاب عاطفية، تستغل مظالم الواقع والاحتقان النفسي لتقديم الجهاد كخيار بسيط وواضح للخلاص والانتقال إلى "دين كامل" يُعطي معنى وهدفًا لحياة الفرد. هذه الرسالة تلتف حول مخاوفهم وتقدم الجهاد كطريقة مجدية لإثبات الانتماء والتضحية.

كما يخاطب الخطاب أيضًا فئات غير متخصصة، من خلال تبسيط المفاهيم الدينية وإعادة صياغتها بحيث تبدو الجهادية كفريضة مركزية، تتفوق على العبادات الأخرى، وبالتالي تخلق لدى المستمع نوعًا من الانتماء الرمزي إلى قضية كبرى تتجاوز المصالح الشخصية. بهذا الشكل، يُمكن للخطاب أن يشكل مدخلًا نفسيًا يُعيد بناء هوية الفرد الدينية والاجتماعية على قاعدة العنف الشرعي، متجاوزًا الحواجز العقلانية التقليدية.

أخيرًا، تكمن خطورة هذا التوجه في قدرته على إنتاج حالة من التوتر النفسي بين الجمهور المستهدف، حيث يتم خلق إحساس بالذنب والقصور الديني لمن لا يلتزم بالجهاد، وهو ما يولد ضغطًا نفسيًا واجتماعيًا يدفع البعض إلى قبول الخطاب بشكل أعمق. وهذا يُظهر أن الخطاب لا يكتفي بالدعوة إلى العنف فقط، بل يعمل كأداة لإعادة تشكيل الوعي الديني والاجتماعي لدى مختلف الفئات، في محاولة لضمان ولاء واسع النطاق يدعم أهداف التنظيم على المدى الطويل.

أثر الخطاب في التجنيد والتطرف

لا يقدّم الخطاب الداعشي الجهاد المسلح كواجب شرعي فحسب، بل يعيد تأطيره كفعل تعبدي سامٍ، يعلو على باقي الشعائر، بل يُضفي عليه طابعًا وجدانيًا أقرب إلى "الطهارة الروحية". هذا التقديم العاطفي يجعل من العنف القتالي تجربة روحية، لا مهمة تنظيمية أو سياسية، ما يعزز من قابلية الأفراد للانخراط فيه بوصفه أسمى أشكال القرب من الله. والنتيجة هي تطبيع القتل باسم الدين، وتحويله إلى شعيرة تُمارس لا جريمة تُدان.

على خلاف الخطابات الجهادية الكلاسيكية التي تتوجه للنخبة القتالية، تتعمد هذه الافتتاحية مخاطبة المسلم العادي، بلغة وجدانية ضاغطة. يتم ذلك من خلال معادلة شعورية بسيطة لكنها فعالة: "إذا كنتَ غير مجاهد، فأنت ناقص الدين، وربما شريك في الخيانة". بهذه الطريقة، يُمارَس ابتزاز ديني وأخلاقي على القارئ، عبر تحميله عبء تقاعسه، واتهامه بشكل غير مباشر بالتفريط في حق الله والأمة. الخطاب لا يقنع فقط، بل يُرهب ويُخجِل.

أحد أخطر أبعاد الخطاب يتمثل في تقديم الجهاد المسلح كطريق "مختصر" إلى التوبة والفوز بالآخرة. بدلًا من رحلة طويلة من العبادة، والمحاسبة، والتكفير التدريجي عن الذنوب، يعرض الجهاد كـ"قناة سريعة" للغفران والقبول الإلهي. هذه الفكرة تجد صداها خصوصًا عند الفئات الهشّة نفسيًا أو المهمّشة اجتماعيًا، ممن يشعرون بالذنب أو الفراغ، ويبحثون عن معنى، أو "نهاية مشرفة" لحياتهم. هنا، يتحوّل الخطاب إلى مصيدة هوية وروحية

لا يكتفي الخطاب ببث الذنب الفردي، بل يسعى إلى خلق شعور عام بالذنب الجمعي بين المسلمين، من خلال استحضار صور الهزيمة والانكسار، وتوظيفها ضمن سياق تعبوي. تُصوَّر الأمة على أنها تنهار لأن أبناءها "يتفرجون ولا يقاتلون"، ما يُحوّل الجهاد من خيار فردي إلى ضرورة جماعية، ومن تقوى شخصية إلى معيار ولاء ديني. هذا التصعيد في الخطاب يُعدّ أداة فعالة في دفع الشباب نحو التطرف، لأنه يبني حالة من الإلحاح الوجودي: "يجب أن تفعل شيئًا.. الآن".

علاقة الخطاب بالتحولات داخل التنظيم

تشير هذه الافتتاحية التي صدرت عن صحيفة "النبأ" في هذا التوقيت الحساس إلى محاولة "داعش" لإعادة ضبط بوصلة خطابه بعد موجات متكررة من الضربات الأمنية والعسكرية التي استهدفت قياداته وقلّصت مناطق نفوذه بشكل كبير. يظهر الخطاب هنا بمثابة رسالة تحفيزية تُراد منها إعادة إنتاج صورة التنظيم كقوة قادرة على فرض رؤيتها الدينية والسياسية، رغم تراجع قدراته الميدانية الظاهرية. هذا يؤشر إلى تحول استراتيجي في الخطاب يهدف إلى إحياء الروح القتالية وتجديد التعاطف مع المشروع الجهادي.

على المستوى البنيوي، يمكن فهم هذه الافتتاحية كجزء من مسعى "داعش" لإعادة تأسيس مشروع "الخلافة" في وعي أتباعه، من خلال استعادة مكانة الجهاد العنيف كركيزة أساسية وأعلى مرتبة في سلم الأولويات الدينية والسياسية. هذا التحول في الخطاب لا يقتصر على الاستمرارية في الدعوة للعنف، بل يشتمل على محاولة إلغاء أولوية الفروض الأخرى، مثل الحج، ليصبح الجهاد بديلًا أو حتى بديلًا حصريًا للدين الإسلامي في تصورهم، ما يعكس إصرار التنظيم على إعادة إنتاج نموذج الدولة الجهادية رغم الأزمات.

ميدانيًا، تتزامن هذه الخطوة الخطابية مع محاولات التنظيم للتمدد أو الاستفادة من الفوضى الأمنية في مناطق مثل الصحراء الكبرى، الساحل الإفريقي، وأجزاء من سوريا والعراق، حيث يستغل "داعش" ضعف المؤسسات وغياب الدولة لتثبيت قواعد له. الخطاب بهذا الشكل يعمل كدعم معنوي واستراتيجي لتلك التحركات، فهو لا يقدم فقط التبرير الديني، بل يحفز القاعدة البشرية والذهنية التي تحتاجها هذه المحاولات لاستعادة زخمها.

بالإضافة إلى ذلك، يعكس هذا الخطاب رغبة التنظيم في استقطاب شرائح جديدة من المجندين، خصوصًا الشباب الذين قد يشعرون بالإحباط أو فقدان الأمل في مجتمعاتهم. من خلال إعادة تأكيد أولوية الجهاد ووصم من يرفضه بالخيانة الدينية والسياسية، يُحاول "داعش" أن يعيد تشكيل مفهوم الولاء والانتماء داخل الجماعة، ويؤسس لمرحلة جديدة من التعبئة الشاملة التي تتجاوز حدود المناطق الجغرافية الضيقة، مستغلًا لحظة رمزية كالحج لتعزيز شرعيته في أذهان المتعاطفين والمترددين على حد سواء.

التوظيف السياسي للعقيدة

الافتتاحية تنسج خيوطًا محكمة بين ما هو عقدي وما هو سياسي، بشكل يُلغي الفواصل التقليدية بين المجالين. فهي لا تتعامل مع العقيدة كمنظومة إيمانية شخصية أو جماعية تهدف إلى تزكية الفرد والمجتمع، بل تُحوّلها إلى أداة صراع سياسي مباشر. في هذا السياق، تصبح المواقف السياسية من الأنظمة الحاكمة أو القوى الدولية جزءًا من العقيدة، بحيث يُقدَّم الولاء السياسي لداعش لا كخيار تنظيمي، بل كضرورة إيمانية.

من خلال دمج "آل سلول" (تعبير قدحي عن الأسرة الحاكمة في السعودية) مع "اليهود" و"النصارى" و"الروافض"، يُعاد إنتاج سردية الأعداء التقليديين في الفقه الصراعي، لكن بشكل مفرط في التبسيط والخطورة. الخطاب لا يفرّق بين خصم سياسي وخصم ديني، بل يُعيد تشكيل الخارطة السياسية في صورة دينية مغلقة: الجميع أعداء لله وللمؤمنين. هذا التأطير لا يتيح مساحة للتفاوض أو الاجتهاد، بل يُرسّخ منطق الحرب الدائمة.

يعتمد الخطاب على خلق شعور دائم بأن "الأمة مستهدفة"، سواء من أعداء خارجيين متربصين، أو أنظمة داخلية "خائنة". هذا التصور لا ينقل فقط الإحساس بالخطر، بل يُبرر به استمرار العنف، بوصفه ضرورة وجودية. كل تراجع عن القتال، وفق هذا المنطق، يعني خيانة العقيدة والسماح للأعداء بالتمكن. وهكذا تتحول العقيدة إلى مظلة مشروعية لأجندة سياسية توسعية تقوم على الصراع المستمر.

رغم الطبيعة الهجومية الصريحة للخطاب، يُقدَّم الجهاد كفعل دفاعي، لا لأن داعش في موقع الدفاع فعلًا، بل لأن الخطاب يُعيد تعريف "العدوان" بشكل فضفاض: كل من يعارض التنظيم، أو لا يخضع له، يصبح معتديًا. وبهذا، يتم تحويل الهجوم إلى دفاع، والقتل إلى حماية، والتوسع إلى إنقاذ. هذه التقنية اللغوية تسهم في تضليل المتلقي، وتجعل العنف مشروعًا في وجدان المتعاطف، بل واجبًا مقدّسًا باسم العقيدة.

منظومة دعائية 

الافتتاحية التي تنشرها "النبأ" لا تُقدَّم بوصفها اجتهادًا دينيًا أو رأيًا في مسألة فقهية، بل تُصاغ كأداة ضمن منظومة دعائية متكاملة تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي الإسلامي من الداخل. هي ليست دعوة عابرة للجهاد، بل محاولة لإعادة ترتيب المفاهيم الكبرى في الدين: تقديم القتال كعبادة متفوقة، وإقصاء الحج وغيره من الشعائر بوصفها "ناقصات الجدوى". هذا النوع من الخطاب يسعى لاختطاف العقل المسلم من بوابة التدين ذاته.

عبر هذا الخطاب، لا تعود "دولة داعش" مجرّد تنظيم مسلّح، بل تصبح هي "الكيان الإسلامي الشرعي" الوحيد، فيما يُصنَّف غيرها من الدول والأنظمة والمؤسسات ضمن خانة "الطاغوت". بهذه الطريقة، يُقدَّم الولاء للتنظيم لا كخيار سياسي، بل كواجب ديني، بينما يُجرَّم الانتماء لأي مرجعية وطنية أو دينية أخرى. وهكذا تُختطف العقيدة لتخدم مشروعًا سلطويًا قائمًا على العنف والإقصاء.

وتأتي هذه الافتتاحية في لحظة دينية جامعة، هي موسم الحج، فتستثمر روحانية الزمان والمكان لا لنشر السلام أو استعادة المعاني العليا للوحدة الإسلامية، بل لاختراق النفوس من أقدس البوابات. في هذا التوقيت، يصبح الخطاب أكثر ضراوة وخطورة، لأنه يحاول أن يغيّر "سُلّم الأولويات" في ذهن المسلم: من العبادة الجماعية إلى القتال الفردي، ومن الطواف بالكعبة إلى حمل السلاح. إنها محاولة لاستبدال الهدى بالسيف، والمناسك بالخنادق.

مواجهة هذا النمط من الخطاب لا تقتصر على الأدوات الأمنية، رغم ضرورتها، بل تتطلب جهدًا فكريًا وشرعيًا عميقًا. لا بد من تفكيك السردية الجهادية، وكشف انتقائيتها، وفضح إساءتها للنصوص وتاريخ الفقه الإسلامي. كما يستدعي الأمر بناء خطاب ديني بديل: عادل، رحيم، واقعي، لا يفقد جوهر الإسلام ولا يستسلم لغلوائه. فالمعركة هنا معركة على الوعي، تبدأ من الكلمة وتنتهي إما بحياة أو دم.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق أسهل طريقة لتسجيل التوكيل التجاري في مصر لعام 2025 خطوة بخطوة
التالى «جولة دبلوماسية جديدة».. وزير خارجية إيران يزور مصر ولبنان الأسبوع المقبل