لبنان في مرآة واشنطن: ازدواجية في الخطاب والهدف واحد!

لبنان24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
في خضمّ التوتر الإقليمي المتصاعد، يطفو الملف اللبناني مجدداً على سطح الخطاب الأميركي، لا بوصفه أولوية بحدّ ذاته، بل كمرآة تعكس تناقض المقاربات داخل واشنطن تجاه ساحات الشرق الأوسط. فبينما تُعيد الإدارة ترتيب أولوياتها بعد سلسلة الحروب والوساطات، يظهر لبنان كحالة اختبار جديدة لمدى قدرة الولايات المتحدة الاميركية على التوفيق بين منطق الردع ومنطق الاحتواء، بين الضغط على "حزب الله" وبين إبقاء الدولة اللبنانية على قيد الحياة. وفي قلب هذا التباين، جاء التناقض بين تصريحات المبعوث الاميركي توم برّاك والمبعوث السابق آموس هوكستين، ليكشف عمق الانقسام في الرؤية الأميركية حيال ما تريده واشنطن فعلاً من لبنان.

Advertisement


هذا التمايز بين المبعوثين لا يمكن قراءته كاختلافٍ في اللغة الدبلوماسية فحسب، بل كترجمةٍ مباشرة لانقسامٍ أعمق داخل الإدارة الأميركية نفسها حول كيفية مقاربة الملف اللبناني في ظلّ الصراع المفتوح مع "حزب الله". فبرّاك، القادم من خلفية أمنية- اقتصادية على تماسّ مع دوائر النفوذ الإسرائيلي والخليجي، يتبنّى خطاب القوة والردع، ساعياً لتحويل سلاح "حزب الله" إلى مدخلٍ لإعادة تشكيل التوازن الداخلي اللبناني وتبرير الانخراط الإسرائيلي المباشر في المعادلة. في المقابل، يعكس هوكستين رؤية أكثر براغماتية، محسوبة على جناح الخارجية التقليدي، تقوم على محاولة ضبط الإيقاع الإقليمي وتفادي تفجّر الجبهة الشمالية، من دون أن تتراجع عن الأهداف الاستراتيجية ذاتها التي تتقاطع عندها واشنطن وتل أبيب.

في جوهر الأمر، لا يختلف الرجلان في النتائج المرجوّة، بل في الأدوات المستخدمة. فبرّاك ينطق بلسان المدرسة التي ترى أنّ لبنان لم يعد قابلاً للإنقاذ، وأن الحلّ يكمن في نزع سلاح "الحزب" بالكامل كمدخلٍ لإعادة صياغة التوازن الداخلي وتبرير الانخراط الإسرائيلي المباشر. بينما يعبّر هوكستين عن إدراكٍ براغماتي بأنّ هذا النهج أثبت فشله، وأن ترك لبنان للانهيار الكامل يعني تسليمه مجدداً لإيران و"حزب الله". من هنا جاءت دعوته إلى إعادة إعمارٍ موازية لتلك التي حظيت بها غزة، في محاولة لتخفيف أثر الفراغ الأميركي من دون مواجهة مباشرة مع "الحزب".

هذا التباين في اللغة يعكس أيضاً صراعاً داخل واشنطن بين جناحين: الأول، يهيمن عليه مستشارو الأمن القومي والدفاع المقربون من اللوبي الإسرائيلي، يدفع باتجاه استثمار الضغط الحالي لتغيير موازين القوى في لبنان. والثاني، تمثّله الخارجية وبعض الدبلوماسيين المخضرمين الذين يعتبرون أنّ الانفجار اللبناني لن يخدم سوى طهران، وأن الحفاظ على الحدّ الأدنى من الاستقرار يخدم المصالح الأميركية أكثر من تفكيك الدولة. لذا، حين يصف برّاك لبنان بـ”الدولة الفاشلة”، يردّ هوكستين بطريقةٍ غير مباشرة مذكّراً بأنّ الفشل ليس قدراً ذاتياً للبنان، بل نتيجة مباشرة لسياسات العزل والتخلّي الدولي عنه.

في المقابل، ينعكس هذا الانقسام الأميركي بوضوح على الداخل اللبناني، حيث تستند بعض القوى إلى خطاب برّاك لتبرير مطالبتها بنزع سلاح "حزب الله" باعتباره المدخل الوحيد لاستعادة العلاقات مع الغرب، فيما تتلقّف قوى أخرى مقاربة هوكستين كفرصةٍ لإعادة إدماج لبنان في منظومة الدعم الدولي عبر مشاريع الإعمار والاستقرار. غير أنّ النتيجة تبقى واحدة: استمرار ارتهان القرار اللبناني لتناقضات الخارج، في ظلّ غياب رؤية وطنية قادرة على تحويل الضغوط إلى مساحة تفاوضٍ متوازنة.

وبينما تتأرجح واشنطن بين خطاب الصدام وخطاب التهدئة، يبدو أنّ القرار الفعلي لم يُحسم بعد، فهل تريد إدارة ترامب دفع لبنان نحو إعادة ترتيب داخلي على المقاس الإسرائيلي، أم تفضّل إبقاءه ساحةً مضبوطة بخطوطٍ حمراء تضمن أمن إسرائيل من دون تفجيرٍ شامل؟ في الواقع، يعكس التباين بين برّاك وهوكستين توزيع أدوارٍ أكثر منه اختلافاً في التوجّه، حيث يجري استخدام التصعيد والاحتواء بالتوازي لتحقيق الهدف ذاته: إخضاع لبنان لشروطٍ سياسية واقتصادية تُعيد رسم توازناته من الخارج. وهكذا، يبقى لبنان أمام إدارةٍ تخاطبه بلغتين متناقضتين؛ واحدة بالعصا وأخرى بالمساومة، لكنّ النتيجة واحدة إذ يتجلّى التباين الأميركي كجزءٍ من سياسة ثابتة تقوم على إدارة الأزمات لا حلّها، حيث يُترك لبنان دائماً على حافة الانهيار من دون السماح بسقوطه الكامل.

أخبار ذات صلة

0 تعليق