Advertisement
هذه الموافقة تأتي في سياق حساس من تاريخ قطاع النفط والغاز في لبنان، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية مع الحسابات السيادية والسياسية، وتُثار تساؤلات جدية عن مدى ملاءمة الاتفاقية للمصلحة الوطنية، وعن الأسباب الحقيقية التي أخّرت إطلاق هذا المسار الحيوي، حيث تظهر واقعة وقف المسح الثلاثي الأبعاد في البلوك البحري رقم 8 أنّ ما حصل لم يكن مجرّد إجراء إداري أو تفصيل تقني، بل يعكس تداخلاً عميقًا بين العوامل السياسية والاقتصادية التي تحكم إدارة قطاع الطاقة في لبنان. فالترخيص الذي منح لشركة TGS خلال عهد الوزير السابق وليد فياض، قبل أن يلغى بقرار من الوزير جو صدّي عقب لقائه مسؤولي شركة توتال في باريس، يكشف بوضوح حجم التأثير الخارجي في مسار هذا الملف السيادي.
وفق خبراء الاقتصاد والطاقة خسر لبنان فرصة ثمينة للحصول على بيانات زلزالية مجانية كانت ستضاف إلى رصيده العلمي، وتعزّز موقعه التفاوضي في أي دورة تراخيص مقبلة. كما كانت هذه الخطوة ستفتح الباب أمام دخول شركات جديدة إلى السوق، ما يوسّع قاعدة المنافسة ويحدّ من هيمنة الائتلاف الثلاثي المكوَّن من توتال وقطر للطاقة وإيني. غير أنّ هذا المسار أُجهض بقرار سياسي بدا وكأنه يخدم مصالح الشركات الكبرى أكثر مما يخدم المصلحة الوطنية.
تتولى شركة توتال إنرجيز الفرنسية قيادة الائتلاف الذي يضم أيضاً قطر للطاقة وإيني الإيطالية، وهو نفس الائتلاف العامل في البلوك رقم 9. هذا الأمر بحدّ ذاته أثار تحفظات في الداخل اللبناني إذ يخشى، بحسب استاذ الاقتصاد والخبير المالي بلال علامة، أن يؤدي منح امتياز جديد للائتلاف ذاته إلى تكريس نوع من الاحتكار الضمني في إدارة الموارد البحرية اللبنانية، ما يحدّ من قدرة الدولة على اجتذاب شركات دولية جديدة وتوسيع المنافسة. ويرى منتقدون أن وجود شركة واحدة في أكثر من رقعة بحرية قد يسمح لها بالتحكم بوتيرة الأعمال الاستكشافية وتوقيتها بما يتناسب مع مصالحها التجارية، وليس بالضرورة مع حاجة لبنان الملحة لتسريع عمليات التنقيب والإنتاج.
التحفظات على الاتفاقية ترتبط أيضاً، بحسب الدكتور علامة، بطبيعة البنود المالية والفنية، لاسيما في ظل الحديث عن أن شروط المشاركة في الأرباح ونسب العائدات ليست بالمستوى الذي يضمن حصة عادلة للدولة، خصوصاً في ظل غياب الشفافية الكاملة في نشر تفاصيل العقد للرأي العام أو حتى للبرلمان. كذلك، تطرح علامات استفهام حول غياب جدول زمني إلزامي صارم، مما يمنح الائتلاف حرية في تأجيل مراحل التنفيذ من دون تحمل مسؤوليات مالية واضحة، ما قد يؤدي عملياً إلى تجميد البلوك لسنوات إضافية. وهذه النقطة تحديداً تعتبر أحد أبرز مداخل النقد للاتفاق، إذ يرى البعض أن الاتفاقية صيغت على نحو يمنح المشغّل امتيازات مفرطة مقابل التزامات محدودة بدون ضوابط محددة.
أما عن التأخير الذي دام أكثر من ثلاث سنوات في إقرار الاتفاقية، فهو، بحسب علامة، نتيجة تداخل عدة عوامل. فمن جهة، ساهم عدم الاستقرار السياسي والفراغات الحكومية المتكررة في تجميد الملفات الاستراتيجية، ومن جهة أخرى، لعبت الاعتبارات الأمنية الإقليمية بعد ترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي دوراً في إعادة رسم أولويات الشركات الأجنبية. كما ساهمت الحروب الناجمة عن طوفان الأقصى وما تلاه من حروب وإعتداءات إسرائيلية في عرقلة كل أعمال الإستكشاف والحفر والتلزيم لمدة سنتين. كما أن وزارة الطاقة واجهت تحديات قانونية في تعديل بعض بنود النموذج التعاقدي ليتلاءم مع المتغيرات الدولية وأسعار النفط المتقلبة. كذلك، تشير بعض المعطيات إلى أن بعض الشركات الدولية التي أبدت اهتماماً مبدئياً بالبلوك 8 انسحبت لاحقاً بسبب تباطؤ الإجراءات، ما ترك المجال مفتوحاً أمام الائتلاف القائم للاستحواذ مجدداً على الامتياز.
في هذا السياق، تبرز اتهامات غير مباشرة لشركة توتال بأنها مارست ضغوطاً سياسية وتقنية لإبطاء أي مبادرات تهدف إلى إشراك شركات أخرى في المسح والاستكشاف ضمن المياه اللبنانية،فالشركة تفضل الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من المعلومات الجيولوجية والبترولية حول الساحل اللبناني، لتبقى صاحبة الكلمة العليا في أي مفاوضات مستقبلية، خصوصاً إذا تبيّن وجود كميات تجارية من الغاز في المنطقة المتاخمة للبلوك 9، وهذا التوجه، إن صح، سوف ينعكس، بحسب علامة، سلباً على قدرة لبنان في تنويع شركائه واستقطاب استثمارات جديدة، ويبقيه رهينة لشركة واحدة تتحكم عملياً بجدول التطوير وبالقرارات التقنية الحساسة.
وليس بعيداً، فإن النقطة الأخيرة التي أثارت جدلاً تتعلق برفض السلطات اللبنانية السماح لشركة ترويجية متخصصة بإجراء المسح الزلزالي في البلوك 8، على الرغم من أن هذه الشركة كانت مستعدة لتحمل التكاليف على نفقتها مقابل حق بيع البيانات للشركات المهتمة لاحقاً، هذا القرار اعتُبر من قبل بعض الخبراء خطوة غير مبرّرة، لأن مثل هذه المسوحات تُشكّل أداة دعائية فعالة لجذب مستثمرين جدد وتوسيع قاعدة المنافسة. التبريرات الرسمية تمحورت حول اعتبارات السيادة وضرورة أن تبقى البيانات بيد الدولة أو الشركات المرخّصة فقط، لكن خلف هذه الحجج تلوح، بحسب علامة، مخاوف من أن السماح بمسح مستقل قد يمنح منافسين محتملين فرصة للاطلاع على معطيات جيوفيزيائية يمكن أن تقلّل من القيمة التفاوضية للائتلاف القائم.
وعليه، يعكس هذا القرار ، كما يقول علامة، استمرار النهج الاحترازي الذي اتبعته وزارة الطاقة، والذي كثيراً ما يتهم بأنه يغلّب الاعتبارات السياسية والولاءات السياسية الدولية على منطق الانفتاح الاستثماري الشفاف وقد يكون المدخل لمعرفة خلفيات تلزيم الإئتلاف. ولذلك فإن اتفاقية البلوك 8 تمثّل اختباراً جديداً لصدق لبنان في إدارة ملف النفط والغاز بجدية ومهنية. صحيح أن جذب شركات عالمية مثل توتال وقطر للطاقة يعتبر مؤشراً إيجابياً من حيث الثقة التقنية، لكن استمرار الغموض حول بنود التعاقد، وضعف المنافسة، ورفض المبادرات الترويجية المستقلة، كلّها عوامل قد تبقي لبنان، بحسب علامة، بعيداً عن تحقيق الاستفادة الاقتصادية المرجوّة من ثروته البحرية، فيما المطلوب اليوم هو قدر أعلى من الشفافية والمساءلة، ونشر نصوص الاتفاقيات للرأي العام، وتكريس مبدأ التنافسية في منح التراخيص، لأن الموارد الوطنية لا يمكن أن تدار بمنطق الصفقات المغلقة أو التفاهمات غير المعلنة، بل بمنطق السيادة الاقتصادية والمصلحة العامة.









0 تعليق