البيان المشترك الذي صدر عن مصر والسعودية والإمارات والأردن وإندونيسيا وباكستان وتركيا وقطر ليس مجرد موقف دبلوماسي عابر في لغة البيانات المألوفة، بل هو جرس إنذار أخير، يقرع في وجه مشروع قديم متجدد، مشروع يرى في الجغرافيا الفلسطينية مطمعا للاحتلال، وفي الإنسان الفلسطيني فائضا يجب إزاحته من طريق الخرائط الجديدة، البيان قال كل ما يخيف المخططين، مستندا على الرفض السياسي المصحوب بالوعي التاريخي، كما ربط بين معبر رفح كمنفذ حياة وبين محاولات تحويله قسرا إلى ممر تهجير، وهي مفارقة تكشف جوهر الصراع بين مشروعين مشروع اقتلاع، ومشروع بقاء.
إسرائيل، منذ اللحظة الأولى للحرب على غزة لم تُخف نواياها الحقيقية، لذلك نرى أن فكرة فتح معبر رفح باتجاه واحد ليست تفصيلا إجرائيا في مشهد معقد، بل هي قلب المخطط وروحه، لأن الاحتلال يدرك أن بقاء الفلسطيني على أرضه هو أكبر هزيمة معنوية يمكن أن يتلقاها، وأن إخراج الفلسطيني منها، ولو تحت لافتة إنقاذ إنساني، هو أعظم انتصار استراتيجي بلا حرب حاسمة، لذلك لم تكن كل الضغوط العسكرية والدمار الهائل إلا أدوات لدفع الناس نحو الباب الوحيد المفتوح قسرا، ليقال للعالم لاحقا إنهم خرجوا بإرادتهم.
لكن ما حسبته إسرائيل مدخلا سهلا للتفريغ البشري، اصطدم منذ اللحظة الأولى بجدار مصري صلب، لم يكن جدارا من خرسانة ولا من أسلاك شائكة، بل جدارا من قرار سياسي سيادي حاسم، يقول بوضوح لا يحتمل التأويل لا تهجير، لا توطين، لا مقايضة بين الدم والأرض، مصرالتي تعرف جيدا خطورة خرائط التآمر منذ عقود، فهمت مبكرا أن التهجير لو تم مرة فلن يتوقف بهدف القضاءعلى ما تبقى من فلسطين، ثم على المنطقة كلها.
الدقة في المشهد المصري لا تتجلى فقط في الرفض المبدئي، بل في الاشتباك اليومي الهادئ مع تفاصيل الضغط، من لغة الإغاثة إلى لغة الدبابات، من اتصالات السياسة إلى بيانات النار، مصر التي فتحت معبر رفح للحياة لا للمغادرة، كانت تدير معركة مزدوجة شديدة القسوة معركة إنقاذ إنسان في الداخل الفلسطيني، ومعركة حماية معنى الدولة في الجوار المصري.
إصرار إسرائيل على مخطط التهجير لم يتغير بل ازداد فجاجة مع تعقّد الحرب واستعصاء الحسم العسكري، فشل الاحتلال في كسر إرادة غزة ميدانيا، فحاول كسرها إنسانيا، وحين لم تنجح آلة القصف في اقتلاع السكان من فوق أنقاض بيوتهم، عادت فكرة الممر الآمن نحو الخارج لتطفو كأداة أخيرة للضغط، معبر رفح في الخيال الإسرائيلي ليس حدّا جغرافيا بين دولتين، بل فتحة في الجدار العربي يراد توسيعها بالقوة ليخرج منها ما عجزت الحرب عن محوه.
في المقابل جاء النجاح المصري في كسر هذا المخطط منذ لحظته الأولى لا بوصفه عنادا سياسيا، بل بوصفه قراءة عميقة لطبيعة الصراع، مصر لم تنظر إلى التهجير باعتباره مسألة فلسطينية داخلية، بل باعتباره تهديدا مباشرا للأمن القومي العربي، ولخرائط الاستقرار الهش في المنطقة كلها، التهجير ليس نقلا مؤقتا للسكان بل إعادة هندسة ديموجرافية، ومن يملك الجرأة على إعادة هندسة شعب كامل بالقوة لن يتورع عن إعادة هندسة الإقليم كله حين تتاح له الفرصة.
البيان المشترك أعاد صياغة هذه الحقيقة بلغة جماعية، وهو ما منح الموقف ثقلا مضاعفا، لم تعد مصر وحدها في مواجهة الضغوط، بل اصطف إلى جوارها ثقل عربي وإسلامي وازن، يرفض أن تتحول كارثة غزة إلى فرصة إسرائيلية لإعادة ترتيب الديموجرافيا، اللافت في البيان أنه لم يكتف بالرفض، بل ربط هذا الرفض برؤية للبقاء لا للخروج، وبحق الفلسطينيين في الحياة فوق أرضهم لا النجاة خارجها، وهذا التحول من منطق اللجوء إلى منطق الصمود هو أخطر ما يقلق الاحتلال.
لأول مرة منذ سنوات طويلة يظهر معبر رفح في قلب معادلة الصراع، إسرائيل تريد أن تجعله بابا للهجرة القسرية، ومصر تصر على أن يبقى نافذة للتنفس في قلب الحصار، بين الرؤيتين تقف غزة كتجربة أخلاقية فادحة للعالم كله.
إسرائيل تراهن على تعب العالم، على إنهاكه من تكرار صور الدمار، وعلى أن تتحول المأساة مع الوقت إلى خبر عادي لا يوقظ الضمير، في هذا المناخ يصبح التهجير حلا مطروحا في غرف مغلقة، لكن القاهرة قطعت الطريق على هذا السيناريو حين نقلت المعركة من حدود غزة إلى حدود الشرعية الدولية نفسها، وحولت فكرة التهجير من مقترح عملي إلى جريمة سياسية مكتملة الأركان، مرفوضة عربيا وإسلاميا ودوليا.
نجاح مصر في كسر المخطط لم يكن ضربة واحدة قاصمة، بل سلسلة من ضربات ناعمة متتالية، تبدأ من الموقف الرسمي وتنتهي عند إدارة المعبر على الأرض، مرورا بالدبلوماسية الهادئة التي وضعت العواصم الكبرى أمام مسؤولية أخلاقية لا مهرب منها، لم تصرخ مصر كثيرا، لكنها تكلمت حين يجب أن يتكلم العقل، ورفضت حين يجب أن يعلو السقف، وفي عمق هذا الاشتباك، كانت إسرائيل ترتب أوراقها بلغة أخرى، لغة الخرائط البديلة، ولغة الأرقام الباردة، غزة في هذه الحسابات ليست مدينة محاصرة، بل عبء سكاني يجب تفكيكه وإعادة توزيعه، ولهذا ظل الحديث عن التهجير يظهر ويختفي، يتلون ولا يموت، لأنه ليس قرارا طارئا بل فكرة مؤسسة في وعي الدولة التي قامت أصلا على فكرة الإحلال مكان شعب آخر.
الفرق المرعب هو أن الفلسطيني هذه المرة، لم يعد مجرد ضحية بلا صوت، غزة رغم الجراح تعلن كل يوم أن البقاء صار شكلا آخر من أشكال المقاومة، وأن الموت فوق التراب أكرم من حياة في المنفى القسري، وهذا التحول في الوعي الجمعي الفلسطيني هو أكبر خسارة استراتيجية لإسرائيل، لأنه يسحب من يدها ورقة التخويف الوجودي، ويعيد تعريف معنى النجاة، من الفرار بالجسد إلى حماية المعنى.
البيان المشترك جاء ليمنح هذا المعنى سندا سياسيا علنيا، ويقول بوضوح إن العالم العربي والإسلامي، مهما اختلفت حساباته، يتفق هذه المرة على خط أحمر لا يجوز تجاوزه، لم تعد المسألة تتعلق فقط بمستقبل غزة بل بمستقبل فكرة الدولة، وحدود السيادة ومعنى العدالة في هذا الإقليم المنهك بالحروب.
في مواجهة هذا التماسك، بدت إسرائيل أكثر ارتباكا في خطاباتها، وأكثر تناقضا في تبريراتها، مرة تتحدث عن ممر إنساني ومرة عن ضرورة أمنية، ومرة عن خيار مؤقت لا دائم، لكن الثابت الوحيد في كل هذه الخطابات هو أن الفلسطيني يجب ألا يبقى حيث هو.
التهجير في النهاية ليس مجرد خروج سكان، بل خروج قضية من معناها، وإذا خرج الفلسطيني من غزة، خرجت معه فكرة الحق، وتحولت فلسطين إلى ملف إنساني لا قضية تحرر، وهذا ما أدركته القاهرة، وأدركه معها هذا الطوق من الدول التي وقعت على البيان، حين اختارت أن تضع كرامة الإنسان قبل حسابات الطقس السياسي المتقلب.
هكذا يبدو المشهد اليوم إسرائيل ماضية في مخططها القديم بثياب جديدة، ومصر تقف عند بوابة غزة بوصفها الحارس الأخير لمعنى البقاء، ليس فقط للفلسطيني، بل لفكرة أن هذا الشرق، مهما اهتز، ما زال يحتفظ بخيط أخلاقي لم ينقطع تماما.
وهنا في هذه اللحظة الفاصلة، لا نعتبر البيان وثيقة دبلوماسية، بل نعتبره سطرا جديدا في كتاب الصراع الطويل، يقول إن التهجير لن يمر، لا لأنه مستحيل عسكريا فقط، بل لأنه مرفوض أخلاقيا وسياسيا وإنسانيا، وفي عالم ينتصر فيه الأقوى عادة، يبدو أن غزة، ومعها مصر، تحاولان أن تنتصرا لمعنى أقدم وأبقى، وهو أن الشعوب لا تخرج من التاريخ عبر معابر مؤقتة.




0 تعليق