خطط لا تموت.. لماذا عادت الملعونة لعادتها القديمة؟

البوابة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم تكن عودة الحديث الإسرائيلي عن التهجير مجرد زلة لسان أو اجتهاد داخل أروقة الحكومة، بل هي ارتداد صريح إلى العقيدة الأصلية التي قامت عليها إسرائيل منذ نشأتها: اقتلاع الأرض من أصحابها، وإعادة تشكيل الجغرافيا بالقوة، وتفريغ المكان من أهله، تحت لافتات أمنية ودينية وتوراتية متجددة بتجدد الظروف، فكلما ضاقت الحسابات العسكرية، وعجزت القوة عن فرض واقع سياسي، عادت إسرائيل إلى سلاحها الأقدم: التهجير.

غزة ليست فقط ساحة حرب، بل ساحة اختبار للنوايا الإسرائيلية الحقيقية، فبينما يسوّق الخطاب الرسمي في تل أبيب لفكرة القضاء على حماس وتحقيق الأمن، تتسرب في الكواليس السياسية والعسكرية سيناريوهات واضحة لإفراغ القطاع من سكانه، ولو جزئيًا، تحت مسمى مناطق آمنة، أو هجرة طوعية، أو ممرات إنسانية، هي المصطلحات ذاتها التي استخدمت تاريخيًا في كل جولات التهجير الفلسطيني، من نكبة 1948 إلى نكسة 1967، وصولًا إلى مشاريع الترانسفير المعاصر.

الأخطر أن هذه الطروحات تمثل امتدادا مباشرا لما يمكن تسميته بالمشروع التوراتي السياسي، الذي حاضرا بقوة داخل اليمين الإسرائيلي المتطرف، هذا التيار لا يرى فلسطين أرضا محتلة فحسب، بل أرض وعد يجب استكمال السيطرة عليها، ولو على حساب اقتلاع شعب كامل، ومن هنا نفهم لماذا تتكرر فكرة التهجير مع كل أزمة، ولماذا لا تسقط من التداول رغم كل الإدانة الدولية.

في اللحظة التي عجزت فيها الآلة الإسرائيلية عن تحقيق نصر حاسم في غزة، عاد طرح التهجير كحل بديل للهزيمة السياسية، فبدلا من الاعتراف بفشل العدوان في كسر إرادة الفلسطينيين، أو فرض معادلة ردع مستقرة، يعاد تدوير فكرة دفع السكان خارج أرضهم، وكأن المشكلة في وجود الشعب لا في الاحتلال ذاته.

غير أن ما تصطدم به هذه المخططات – وهذه هي المرة الفارقة – هو الجدار المصري الصلب، مصر، التي خبرت مبكرا خطورة مخطط التهجير، أعلنت بوضوح لا لبس فيه: لا تهجير تحت أي ظرف، ولا عبور قسري للفلسطينيين خارج أرضهم، ولا تصفية للقضية على حساب الأمن القومي العربي، هذا الموقف لم يكن مجرد تصريح سياسي، بل ترجمة فعلية لمعادلة استراتيجية تعتبر أن تهجير الفلسطينيين هو تهديد مباشر لميزان الاستقرار الإقليمي، ومحاولة لتفريغ القضية من مضمونها التاريخي.

لقد فهمت مصر ما تحاول إسرائيل أن تمرره تحت ستار القبح والوضاعه فالتهجير، مهما تغيرت مسمياته، يعني عمليا إسقاط حق العودة، وتكريس الأمر الواقع، وتحويل النكبة من حدث تاريخي إلى مسار دائم ومتجدد، وهو ما لا يمكن لأي دولة تدرك وزنها الإقليمي ومسؤوليتها التاريخية أن تقبل به.

من هنا، تحولت القاهرة إلى الحصن السياسي والجغرافي الأخير أمام مشروع التفريغ السكاني لغزة، لا لأن مصر معنية فقط بحماية حدودها، بل لأنها تدرك أن سقوط غزة بالتهجير يعني سقوط القضية الفلسطينية بأكملها في بئر النسيان السياسي، ولذلك كان الرفض المصري قاطعا، لا يقبل التأويل ولا المساومات الناعمة.

في المقابل، تستمر إسرائيل في استخدام لغة مزدوجة: خطاب رسمي يتحدث عن القانون الدولي وحماية المدنيين، وخطاب داخلي يتداول سيناريوهات الترحيل وإعادة التوطين، هذا الانفصام بين الخطابين يكشف حجم الأزمة الأخلاقية والسياسية التي تعيشها إسرائيل، حين تُدار الحرب باعتبارها مشروعًا دينيًا-استيطانيًا أكثر منها مواجهة أمنية.

إن أخطر ما في عودة خطاب التهجير ليس فقط خطورته على غزة، بل ما يحمله من رسالة لكل فلسطين: أن إسرائيل لن تتخل يومًا عن حلم التوسع، وأن كل ما جرى من اتفاقيات وتسويات لم يكن سوى محطات مؤقتة في طريق مشروع أكبر لم يكتمل بعد في عقل تيارات داخل الدولة العبرية، وسط هذا المشهد القاتم، يظهر الدور المصري باعتباره صمام الأمان الأخير، ليس فقط لغزة، بل لاستمرار القضية ذاتها كقضية تحرر وطني، لا كملف إنساني للتفريغ السكاني، فمصر لا تواجه مجرد سيناريو عسكري، بل تتصدى لمخطط سياسي طويل النفس، يُراد له أن يُمرر تحت غبار المدافع.

الخلاصة أن إسرائيل، حين عادت إلى لغة التهجير، أسقطت آخر أقنعتها السياسية، وكشفت أن مشروعها لم يغادر مربعه الأول: اقتلاع الأرض من أصحابها، لكنها في المقابل اصطدمت بحقيقة صلبة: أن مصر ستظل الحائط الاستراتيجي الذي تتكسر عنده سيناريوهات التصفية، وأن غزة، رغم الجراح، ما زالت عصية على الاقتلاع، لأن وراءها ظهيرًا إقليميًا يدرك أن سقوطها يعني سقوط ميزان المنطقة بأكمله.

 ويبدو أيضا أن رد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على مشروع التهجير أقرب إلى الصمت المراوغ منه إلى الرفض الصريح؛ فهو لا يصطدم علنا بالفكرة، ولا يتبرأ منها بوضوح، بل يتركها عالقة في المنطقة الرمادية، حيث يمكن تمريرها لاحقا تحت غطاء السلام وإعادة الإعمار والترتيبات الجديدة، هذه الازدواجية تعيد إنتاج جوهر خطته القديمة: تصفية سياسية ناعمة للقضية بدلًا من تهجير فج مباشر، بما يسمح لإسرائيل بتحقيق المكاسب ذاتها بأدوات مختلفة، وبينما تتغير الصياغات وتتبدل العناوين، يبقى جوهر المشروع واحدًا: إفراغ الأرض من أصحابها أو انتزاع حقهم في البقاء فوقها، وفي مواجهة هذا المسار، يبقى الرهان الحقيقي ليس على وعود الساسة في واشنطن، بل على صلابة الموقف العربي، وفي القلب منه الموقف المصري، الذي أثبت أنه القيد الأثقل على أي محاولة لتحويل التهجير من فكرة مطروحة إلى واقع مفروض.

التهجير ليس قدرا، والخطط التوراتية ليست حتمية، وغزة ليست تفصيلة عابرة في صراع حدودي، بل جوهر قضية لا تموت. وما دامت مصر في موقعها، فإن هذا المشروع، مهما تغيّرت أدواته، لن يمر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق