غيب الموت، الكاتب مصطفى أبو حسين، عن عمر ناهزة الـ 57، وقبل ساعات قليلة من تحقيق أمنيته الأخيرة برؤية أولى أعماله الروائية، “صمت الرب الطويل”.
مصطفي أبو حسين الذي عاش في عزلة وصمت بعيدا عن ضجيج الأضواء والساحة الثقافية، لم تخل حياته من الأصدقاء، ومنهم الباحث حسام الحداد، الذي تحدث عنه في تصريحات خاصة لـ"الدستور".
مصطفى أبو حسين كان ممرًّا سريًا إلى الحياة ورفيق دهشتها
وفي شهادته قال “الحداد”: “هناك أشخاص يمرّون في حياتنا مرور الظلال، يتركون أثرًا عابرًا ثم يمضون. وهناك آخرون يولدون معنا في اللحظة نفسها من الوعي، يكبرون فينا قبل أن يكبروا أمامنا، نرى العالم من أعينهم قبل أن نراه بأعيننا. مصطفى أبو حسين كان من هذا النوع. ليس مجرد صديق طفولة، بل ممرًّا سريًا إلى الحياة، بوصلتها الأولى، ورفيق دهشتها”.
وأضاف: “اليوم، حين أكتب عنه بعد رحيله، أشعر أنني لا أكتب عن شخص غادر، بل عن جزء عميق من حياتي انطفأ فجأة، تاركًا ظلاله على الذاكرة، مصطفى ذلك الطفل الذي بدأ كاتبًا قبل أن يعرف الكتابة كنا أطفالًا في القرية نفسها. لم يكن مصطفى أكثر صخبًا أو حركة من غيره، لكنه كان يملك تلك النظرة التي تجعل الطفل يبدو أكبر من سنّه، كان يجلس في ركن بعيد، يراقب الناس، يلتقط تناقضاتهم كما يلتقط آخرون الكرات في الملاعب".
وتابع: "أذكر أننا كنا نضحك عليه أحيانًا لأنه يحمل "كراسة" صغيرة أينما ذهب. كنا نعتقد أنه يكتب أسماء من يزعجونه ليشكينا لأساتذة المدرسة. لم نكن نفهم أنه كان يكتبنا، يكتب طفولتنا ويصنع مواد خام لقصصه القادمة. الكاتب الذي امتلك حساسية الوجع، وصوت الضحك".
مصطفى أبو حسين رأى الألم في التفاصيل الصغيرة التي نتجاوزها
واستكمل “الحداد”: “كبر مصطفى بسرعة غريبة، ليس في العمر، بل في الوعي. كان يرى الألم في التفاصيل الصغيرة التي نتجاوزها، ويسمع أصوات الهزائم الخفية في جمل العابرين. لكنه، بالمفارقة نفسها، كان الأكثر قدرة على الضحك والسخرية. كان يضحك من الألم ويجعلنا نضحك معه. ربما لهذا أصبحت كتاباته مزيجًا من المرارة والبهجة، من الحكمة والسخرية، من الجرأة والطفولة”.
واستطرد: "كان يعرف كيف يلتقط أعطاب المجتمع، لا ليُدين، بل ليكشف تناقضاته ليقول: “هكذا نحن، فلا تتجمّلوا، لم يكن مجرد كاتب كان ضميرًا يكتب بصوت منخفض، في كل مرة كنت أقرأ له، كنت أراه الطفل ذاته: يجلس في ركن بعيد، يراقب العالم بعين حائرة حكيمة”.
مصطفي أبو حسين غادر بصمت كما عاش
وأكد أن مصطفى لم يكتب من برج عالٍ، لم يكتب لأحكام نقدية أو لجوائز، كتب لأنه لم يستطع ألا يكتب. كان يكتب من قلبه، من فاجعته الشخصية مع الحياة، من بحثه الدائم عن معنى. ولذلك أحبّه القرّاء، ولذلك صدّقه النقّاد قبل أن يحتفوا به،
حتى أن رحيله يشبه الخاتمة الدرامية في رواياته، أن تصله روايته "ماريا القبطية" إلى البيت، بينما هو يرقد في المستشفى، كأن القدر أراد قول شيء ما شيء يشبه: “لقد انتهت الرحلة يا مصطفى، والكتاب يكمل عنك الطريق".
واختتم: “غادر بصمت، كما عاش. غادر في لحظة تبدو وكأنها مقتطف من رواية، لا من حياة. ما يبقى بعد الرحيل.. يبقى من مصطفى صوته: ذلك الصوت الذي لم يكن يصرخ، لكنه كان يصل. يبقى أسلوبه الساخر الحزين، وجرأته على قول ما يخشاه الآخرون. تبقى كتبه التي تشبهه: نقية، موجوعة، ممتلئة بالحكمة، ويظل في القلب ذلك الصديق الذي كبر معي، ورافقني في أولى الحكايات، ولم أكن أتخيل يومًا أنني سأكتب خبر رحيله، بدلًا من أن أقرأ عليه خبر صدور عمل جديد”.
















0 تعليق