إفيه يكتبه روبير الفارس: "المهاجر" كنص مفقود في "أولاد حارتنا"

البوابة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

سعدت كثيرًا برؤية فيلم المهاجر للمخرج الكبير يوسف شاهين في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي. للمرة الثانية، فقد سبق وشاهدته من أكثر من 25 سنة في المركز الثقافي الروسي، حيث ظل فيلمًا ممنوعًا ومطارَدًا من الجحافل الأصولية. وبعد المشاهدة والاستمتاع، لمعت في رأسي فكرة مجنونة للجمع  بين الأدب والسينما والرمز الديني، حيث تخيلت أن فيلم "المهاجر" ليوسف شاهين -المستوحى من قصة النبي يوسف-  يشبه “النص المفقود” داخل رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، تلك الرواية التي أعادت سرد مسار البشرية من خلال رموز الأنبياء داخل إطار حارة شعبية. هذا التقاطع ليس مجرد تشابه في المرجعية، بل هو درس في كيفية استواء السرد الدرامي عندما يتكئ على النموذج النبوي بوصفه مرآة للإنسان والسلطة والمصير.

في "أولاد حارتنا" يقدّم محفوظ سلسلة من الشخصيات الرمزية التي تعيد تمثيل قصص الخلق والأنبياء: أدهم، جبلاوي، إدريس، جليل، رفاعة، قاسم. وكل شخصية ليست تجسيدًا مباشرًا لنبي معين، بل هي تأويل أدبي حر، يخلع عن الحدث الديني معناه الغيبي ليكشف البنية الإنسانية والاجتماعية خلفه. هذا “التأويل الدرامي” هو نفسه ما فعله يوسف شاهين، لكن من جهة أخرى: لقد أخذ جوهر قصة يوسف —الصراع بين الإخوة، الرحلة، الصعود من القاع إلى السلطة، الإيمان بالحلم— وحوّله إلى صراع إنساني دنيوي يخص العلم والهجرة والمعرفة.

لو وضعنا العملين جنبًا إلى جنب سنجد أن ما يربطهما ليس فقط استلهام قصة نبوية، بل طريقة تحويل السرد المقدس إلى بنية درامية قابلة للتعدد والتأويل. فمحفوظ يكتب بالترميز، بينما شاهين يكتب بالتجسيد البصري؛ الأول يذيب المعنى في نسيج الحارة، والثاني يخلقه في صورة وحركة ومواجهة. لكن كليهما ينطلق من يقينٍ بأن قصص الأنبياء ليست فقط موروثًا دينيًا، بل هي مخزون درامي ضخم عن الحلم والخيبة والخطيئة والطموح والعدل والظلم.

في “المهاجر” نجد البطل الأخلاقي —أعطاه شاهين اسم "رام"— هو بطل صاعد من محنة إلى أخرى، الباحث عن العلم كنوع من الخلاص، وهو ما يشبه مسار البطل “جبل” في "أولاد حارتنا"، الذي يمثل نموذج النبي الذي ينادي بالعدل في وجه القهر. كذلك يمكن أن تُرى سيرة يوسف في شخصية “رفاعة” الذي يُقتل غدرًا، فالرواية كلها تُبنى على جدلية البراءة والخطيئة، الحلم والواقع، الوحي والعقل، وهي ذات الجدلية التي تقوم عليها قصة يوسف أصلًا.

إن استخدام قصص الأنبياء في الأدب والدراما ليس بهدف إعادة روايتها، بل لتفكيكها وإعادة تركيبها داخل سياق إنساني يطرح أسئلة العصر: من يحكم؟ من يملك السلطة؟ كيف يتحقق العدل؟ ما معنى أن يكون الإنسان مختارًا أو مُجبَرًا؟ هنا تكتسب القصص الدينية وظيفة مزدوجة: فهي من ناحية تقدّم بنية جاهزة غنية بالصراع والتوتر، ومن ناحية أخرى تمنح الكاتب والمخرج رأس مال رمزيًا عميقًا يسمح بإعادة قراءة الذاكرة الجمعية.

من هنا تنبع قوة الفكرة التي تقترحها: النظر إلى "المهاجر" كنص موازٍ أو مفقود داخل عالم “أولاد حارتنا” يكشف كيف يمكن للسرد النبوي أن يتجدد كل مرة، وأن يخلع جلده بين الأدب والسينما، بين الرمز والمشهد، ويبقى محتفظًا بجوهره: حكاية الإنسان في مواجهة قدره.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق