تحل اليوم ذكرى وفاة الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي، الذي غادر عالمنا في 23 نوفمبر عام 1957 بمدينة نيويورك، بعد مسيرة أدبية وإنسانية جعلته واحدًا من أبرز شعراء المهجر، وأكثرهم تأثيرًا في حركة الشعر العربي الحديث.
وعلى مدار حياته الممتدة بين لبنان ومصر والولايات المتحدة، ترك إيليا أبو ماضي إرثا شعريا يمتزج فيه الحنين بالطبيعة، والفلسفة بالأمل، والتمرد بالبحث عن الجمال، ليصبح اسما لا يمكن تجاوزه في تاريخ الأدب العربي الحديث.
بدايات إيليا أبو ماضي
ولد إيليا أبو ماضي في قرية المحيدثة بلبنان في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، في بيئة ريفية محاطة بجمال الطبيعة الذي ترك في نفسه أثرًا لم يفارقه طوال حياته، وتلقى تعليمه الأولى في مدرسة صغيرة بقريته، لكنه اضطر لمغادرتها مبكرًا بسبب ضيق الحال، فغادر وهو في الحادية عشرة من عمره إلى الإسكندرية في مصر، حيث بدأت أولى ملامح شخصيته الأدبية في التشكل، وكانت تلك الرحلة المبكرة بمثابة البذرة الأولى لشاعر سيظل الاغتراب جزءًا أصيلًا من تجربته.
محطة إيليا أبو ماضي في مصر: بداية تجربته الشعرية
في الإسكندرية، وجد إيليا أبو ماضي بيئة ثقافية نابضة، وبدأ ينشر قصائده في الصحف المصرية، مستفيدًا من حركة النهضة الفكرية المتنامية آنذاك.
وبين العمل في التجارة والقراءة والكتابة، تبلورت موهبته الشعرية بشكل واضح، وفي عام 1911 أصدر ديوانه الأول "تذكار الماضي"، الذي حمل قصائد لا تزال تحتفظ بنبرة الشاعر الشاب الذي يجمع بين الحس الوطني والغنائية الرقيقة، أما جرأته في انتقاد الظلم العثماني، فقد جعلته عرضة للمتابعة والمضايقات، ما دفعه للتفكير في الهجرة بحثًا عن فضاء أرحب يعبر فيه عن صوته الحر.
إيليا أبو ماضي والهجرة إلى الولايات المتحدة
عام 1911 غادر إيليا أبو ماضي مصر متوجهًا إلى الولايات المتحدة، ووصل أولًا إلى سينسيناتي، ليعمل هناك مع أخيه في التجارة، قبل أن ينتقل عام 1916 إلى نيويورك حيث بدأت رحلته الأدبية الحقيقية، وفي نيويورك عمل نائبًا لرئيس تحرير جريدة "مرآة الغرب"، وهناك تعرف إلى جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وهذا اللقاء كان نقطة تحول كبرى، إذ أسس الثلاثة معًا "الرابطة القلمية" عام 1920، التي لعبت دورًا محوريًا في تشكيل ملامح الأدب العربي الحديث في المهجر، ومنحت أبا ماضي فضاءً فلسفيًا حرًا عزز رؤيته وتجربته.
مجلة "السمير".. المنبر الأهم لشعر المهجر
في 15 أبريل 1919 أصدر إيليا أبو ماضي مجلة "السمير"، التي انطلقت من نيويورك كأهم منصة عربية لأدباء المهجر، وقد احتضنت أقلامًا عديدة، وأسهمت في نشر الاتجاه الرومانسي والفلسفي في الشعر العربي.
ومن خلال "السمير"، قدم أبو ماضي رؤيته العروبية المنفتحة، وطرح قضايا الوطن والإنسان والعدالة الاجتماعية، قبل أن يحول المجلة إلى جريدة يومية عام 1936، وبقيت "السمير" تصدر حتى وفاته، شاهدةً على دوره كصوت أدبي مؤثر وفاعل في المهجر.
مسيرة إيليا أبو ماضي الأدبية
امتدت تجربة إيليا أبو ماضي الشعرية لعقود، أثمرت عددًا من الدواوين التي شكلت علامة في الشعر العربي، حيث بدأها بـ"تذكار الماضي" الذي أصدره في الإسكندرية، قبل أن يصدر ديوانه "إيليا أبو ماضي" بعد انتقاله إلى نيويورك عام 1918، وهو الديوان الذي كتب مقدمته جبران.
وفي عام 1927 ظهر ديوان "الجداول" والذي قدم له ميخائيل نعيمة، ثم ديوان "الخمائل" عام 1940، الذي يُعد ذروة نضجه الأدبي، لما يجمعه من تأملات الكون والحياة والإنسان، كما نشر ديوانين آخرين هما "تبر وتراب" و"الغابة المفقودة"، فضلًا عن عشرات القصائد المنتشرة في الصحف الأدبية مثل جريدة العصبة، وتظهر في هذه الأعمال كلها فلسفته الشعرية التي تجمع بين الحيرة الوجودية والنزوع الجمالي.
الطبيعة في شعر إيليا أبو ماضي
الطبيعة هي ملاذ أبو ماضي، ورفيق طفولته وشريكة غربته، فهي ليست مجرد خلفية جمالية في شعره، بل كائن حي يتحدث معه ويبوح له، فالجداول والنسائم والأشجار والضوء كلها حضرت في قصائده كرموز للحرية والأمل والسلام، وهو ما برز في قصيدته الشهيرة: "يا ليتني لص لأسرق في الضحى سر اللطافة في النسيم الساري".
الوطن والحنين والاغتراب في شعر إيليا أبو ماضي
بقي لبنان حاضرًا في قصائده رغم سنوات المهجر الطويلة، فالوطن عنده ليس مكانًا جغرافيًا فحسب، بل عاطفة وهوية وذاكرة، وقد عبر عن شوقه لبلاده في عدد من أشهر قصائده، حيث يظهر الحنين كوجع دائم، والاغتراب كقدر لم يستطع التخلص منه.
ومع اشتعال الحروب في وطنه وأوضاعه الصعبة، تحولت القصائد إلى نداءات حزن ووفاء، تعبّر عن شاعر يرى في وطنه الجزء الأجمل من روحه.










0 تعليق