نجح "آخر المعجزات" الفيلم الأول للمخرج عبد الوهاب شوقي في لقاء جمهور السينما أخيرا، بعدما منعته قوة غامضة -لسبب لا يعرفه أحد- عن العرض في دورة العام الماضي لمهرجان الجونة، رغم حصوله على الموافقة الرقابية.
لماذا منع “آخر المعجزات” من العرض؟
ولقد استخدمتُ عبارات "قوة غامضة و"لا يعرفه أحد" بعدما شاهدت الفيلم أخيرا ضمن فعاليات الدورة الـ 46 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي والذي عُرِض، أمس الأول، بقاعة إيوارت بميدان التحرير، وسط إقبال جماهيري غفير، وأعتقد أن المئات قد أقبلوا على الفيلم لكي يشاهدوا المشهد الخطير الذي تسبب في منعه، ولكن أحدا لم يحصل على مبتغاه للأسف الشديد، فلا تابوه سياسي أو جنسي أو ديني في الفيلم، لا ألفاظ خادشة للحياء ولا اختراق لقيم الأسرة ولا ازدراء للأديان أوإثارة لفتن تضر بالأمن القومي. وزاد الغموض غموضا أن الفيلم لم يحتوي مشهدا جنسيا واحدا، ليخرج الجمهور من الفيلم بعلامة استفهام كبرى: لماذا مُنِع عرضه في مهرجان الجونة، إذن؟!! وهي إجابة لا يعلمها المخرج نفسه على حسب كلامه لي في أول لقاء جمعني به عقب حادثة المنع، وأتذكر حينها أنني باركت له منع الفيلم، وأعتقد أن مباركتي كانت في محلها، حيث أن الفيلم لو عُرِض في الجونة حينها لكان حُرِم من لقاء هذا الجمع الغفير من الناس في القاهرة، وهذا الجمع أمر نادر في مصر لعرض فيلم قصير مدته 20 دقيقة.
الترجمة السينمائية للأدب
في فيلم "آخر المعجزات" كان عبد الوهاب شوقي انقلابيا في ترجمته السينمائية للأدب، إذ يرتكز الفيلم على قصتين لنجيب محفوظ وردتا في مجموعته القصصية الصادة عام 1969 “خمارة القط الأسود”؛ واحدة منهما بعنوان "معجزة" والأخرى بنفس عنوان المجموعة، وربما تداخلت معهما قصص أخرى من نفس المجموعة، لست أدري، لأنني لم أتمكن للأسف من قراءة تتر النهاية بسبب سرعة عرض الأسماء واختيار اللغة الإنجليزية لعرضها، ناهيك عن عدم صلاحية قاعة إيوارت للعرض السينمائي الدولي من أساسه، فلم ألمح بالضبط أسماء القصص ولكن من قراءتي للمجموعة، أستطيع أن أؤكد اعتماد الفيلم على قصة “معجزة” كحبكة رئيسية تتداخل معها تفاصيل بسيطة من “خمارة القط الأسود” أيضا في الفيلم.
عبد الوهاب شوقي "الانقلابي"
والمقصود بانقلابية عبد الوهاب شوقي أنه لم يترجم قصة معجزة حرفيا إلى السينما مثلما فعل جون هيوستن مع رواية هرمان ملفل الشهيرة "موبي ديك" في فيلم صادر بنفس اسم الرواية عام 1956، ولم يترجمها ترجمة تقليدية مثلما فعل صلاح أبو سيف مع قصة ستيفان زفايج "رسالة من مجهولة" حيث غير أسماء الشخصيات والأماكن والخاتمة وعادات وتقاليد الشخصيات لتتناسب مع بيئته وزمنه لكنه حافظ بقدر كبير على الحبكة الرئيسية للعمل. لم يكن عبد الوهاب شوقي مثل هذا أو ذاك بل كان انقلابيا في الترجمة مثلما فعل داود عبد السيد مع رواية مالك الحزين لإبراهيم أصلان، إذ يغض النظر عن الحبكة الرئيسية والأدوار التي تلعبها الشخصيات ليستخرج جوهرا غامضا للأدب وكأنه يؤمن أن النص الظاهر إنما هو قضبان تحبس وراءها روح تتوق للحرية، أو حلم يتوق للتحقق.
“معجزة” نجيب محفوظ
تدور قصة “معجزة” لنجيب محفوظ حول زبون في بار يخترع اسما ثلاثيا عجيبا لشخص والاسم هو محمد شيخون الماوردي ليفاجئ أن محمد شيخون الماوردي شخص موجود بالفعل، فيندهش، ويخترع اسما آخر ليتأكد من تلك الخارقة، ليفاجئ أيضا بأن الاسم الجديد موجود، فيبحث مع من حوله عن سر هذه الخارقة، فمنهم من استخف به ومنهم من أعطي له سببا علميا، لكن كل هذه الآراء لم تقنعه، لم يقنعه سوى رأي واحد فقط هو رأي شيخ الزاوية الذي بشره بأنه ولي من أولياء الله الصالحين ومكشوف عنه الحجاب، فيقتنع في هذه الرتبة الروحانية العالية التي منحت إليه، ويسعد بها ليصدم في نهاية القصة بأن محمد شيخون المواردي كان مجرد خدعة دبرها له أحد زبائن البار وأنه ليس وليا ولا يحزنون فيضطر إلى ضرب الرجل فيقوم الرجل بقتله.
الصوفية عند نجيب محفوظ تجلت في معظم قصصه القصيرة ورواياته لنذكر مثلا مجموعته القصصية “دنيا الله” ومجموعته “شهر العسل” وروايته “اللص والكلاب”، كذلك بعض القصص في “خمارة القط الأسود”، لكن ما الصوفية عند نجيب محفوظ سوى وسيلة تمكنه من توليد غرائبيات السرد، الصوفية عنده هي الشكل المصري لاحتفالات البسطاء (الموالد) ولأن عند المصريين المولد دائما صاحبه غائب، فيكون مبرر للكاتب لأن يجعل الشخصيات تتحرر من منطقها كما تتحرر الإلكترونات في ذرة العنصر من مداراتها حول النواة، لكن هَم محفوظ الأكبر يكمن في سردية الأشياء وتسييل الوعي وشعرية الحوار وخلق دراما للأفكار الفلسفية الكبرى كالحقيقة والمعرفة والزمن لا الصوفية.
تأسيس عالم صوفي
لكن عبد الوهاب شوقي أخذ الهامش الصوفي في قصة محفوظ وجعله متنا ضخما أسس به عالما مليئا بالرموز والرقصات والأزياء العجيبة، عالما واسعا يتطلب المزيد والمزيد من التفاصيل للدرجة التي جعلته يفتش في قصة أخرى ويستحضر منها مشاهد لقط يتقافز على كراسي إحدى الخمارات ليشكل القط رمزا مكثف الدلالات في ذلك العالم الذي صنعه.
لقد غير أسماء الشخصيات وألغى كثيرا من الأحداث في قصة محفوظ وتصادف أنه عثر على طريقة صوفية تحمل اسم الماوردية فبقى على هذا الاسم، وصور مشاهد مبتكرة لطقوس تلك الطريقة التي ذاب البطل فيها وسَحَره إيقاعهم وأفكارهم، ولم يلتزم بحَرْفِية القصة المحفوظية "معجزة" سوى في خاتمتها حيث يحدث عراك يُقتل فيه البطل.
“آخر المعجزات” ليس فيلم مهرجانات بل فيلم للناس
لقد قدم عبد الوهاب شوقي فيلما مختلفا عن الواقع الحالي للأفلام العربية، فيلما كان يستحق أن يمتد لساعتين وليس 20 دقيقة فقط، وربما كان الطريق ممهد أمام عبد الوهاب بالفعل ليصنع فيلما روائيا طويلا، لكنني أتخيل أن صعوبات الإنتاج الجديد المعتمد على جهات تنفق مقابل نشر أيديولوجيا أو شعار ما تتبناه، قد يمنعه من قبول ذلك خوفا من تشويه فنه العذب، إذ كان يجب عليه مثلا أن يعقد علاقة عاطفية بين البطل وشيخ الزاوية، أو أن يجعل الجماعة الصوفية جماعة من ذوي البشرة السمراء تمجيدا للأفروسنتريزم، أو أن يأتي بأمراض غامضة ترتبط بواقع الشخصيات كأن تنمو قطع من زجاجات النبيذ في جسم البطل وإلى آخره من التيمات التي تفرض فرضا على أفلام المهرجانات الجديدة وفي النهاية يخرج لنا الفيلم كعمل مركب مبتذل وسخيف.
لقد بَعُد "شوقي" كل البعد عن هذا التيار وربما اختياره قالب الفيلم القصير ليصب فيه سائل مشاعره الملتهب، كانت وسيلته لذلك، حيث قدم سينما مصرية ذهبت مع الريح منذ زمن طويل، وكنت أظن أنها انتهت للأبد وأصبحت ذكريات، (تبدد ذلك الظن بعدما شاهدت آخر المعجزات).
سينما عبد الوهاب شوقي
عبد الوهاب شوقي مخرج لم ينظر إلى السينما باعتبارها شريطي صورة وصوت أنيقين حيث إذا نجح في الاعتماد على تكنيك متطور لإخراجهما أصبح يمتلك فيلما جميلا، (لا، إطلاقا كان لا يهمه التكنيك)، بل كانت السينما عنده نبشا في الأدب واستخراج جوهره، ربما قرأ 100 عمل أدبي كي يستقر على هذا الفيلم.
حينما ترجم عبد الوهاب الأدب سينمائيا -وكان انقلابيا في هذه الترجمة كما أوضحنا- لم يُحَرِّف القصة بلا ضبط أو ربط ولكنه استخدم قصة أخرى ("خمارة القط الأسود) واقتطع منها تفصيلة القط ومزجها بالقصة الرئيسية، وهذا أسلوب لأول مرة أشاهده في سينمانا المصرية، فالاعتماد عادة مايكون على عمل أدبي واحد فقط: "الكيت كات" "بيت من لحم" "أنف وثلاث عيون" "الراقصة والطبال" "النداهة" وإلى آخره، بغض النظر عن أسلوب ترجمته إن كان حرفيا أو تقليديا أو انقلابيا (جذريا).
معجزة عبد الوهاب شوقي
إن كواليس خروج "آخر المعجزات" للنور هو في حد ذاته معجزة. فيلم يُحيي الموتى، فقد أحيا سينما كنا ظنناها قد ماتت، فيلم سُمح له بالعرض، ولسبب ما غامض تم منعه، ولسبب ما تم عرضه مجددا بعد أكثر من عام على المنع، فقوبل بمشاهدة سينمائية ضخمة في سابقة لم يعهدها عرض الأفلام القصيرة في مصر، وكأن عبد الوهاب نفسه به شيء لله، ومكشوف عنه الحجاب مثل بطل فيلمه، لكننا لا نتمنى أبدا أن تصير له نفس نهايته.









0 تعليق