من طهران إلى زيمبابوي ولندن.. الرحلة التي صنعت دوريس ليسينج

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

رحلةٌ تمتد عبر ثلاث قارات، وثلاثة أوطان، وثلاثة سياقات تاريخية وسياسية مختلفة، صنعت واحدة من أكثر الكاتبات تأثيرًا في الأدب العالمي في القرن العشرين: دوريس ليسينج (22 أكتوبر 1919-17 نوفمبر 2013)، الحائزة على جائزة نوبل في الأدب عام 2007، لم تكن حياتها مجرد سيرة شخصية، بل كانت خريطة للتحولات الفكرية الكبرى، من النشأة في الشرق الأوسط، إلى التكوين في قلب إفريقيا، وصولًا إلى النضج في أوروبا.

وُلدت ليسينج عام 1919 في طهران لأسرة بريطانية كانت تعمل في الحقل الدبلوماسي، في تلك المدينة التي تتقاطع فيها الثقافات واللغات، بدأت ملامح الهوية الأولى تتشكل؛ بيئة تختلط فيها تقاليد الشرق وامتدادات الغرب، وتفتح أمام الطفلة فضاءً أوسع لفهم الآخر والاختلاف، لكن تلك المرحلة لم تدم طويلًا، إذ انتقلت الأسرة إلى روديسيا الجنوبية (زيمبابوي حاليًا)، حيث ستتكوّن جذوة الوعي السياسي لدى الكاتبة الشابة.

في إفريقيا، عاشت ليسينج حياةً متقلبة بين اتساع الطبيعة وقسوة الاستعمار. هناك رأت عن قرب التفاوتات الاجتماعية والعرقية، ولامست غضب الأرض والصراع على الحقوق والهوية. كانت تلك السنوات شرارة أولى لكتاباتها التي ستصبح لاحقًا من أهم الأصوات المُنتقدة للسلطة والتمييز. وفي مذكراتها، تعترف بأن إفريقيا قد "ربتها فكريًا"، وأنها المكان الذي شحذ إحساسها بالحرية والتمرّد.

ومع انتقالها إلى لندن عام 1949، بدأت المرحلة الأكثر تأثيرًا في مسيرتها الأدبية. دخلت ليسينج الوسط الثقافي والسياسي البريطاني، وانخرطت في التيارات اليسارية والحركات النسوية، وبدأ قلمها يُعبّر بجرأة عن قضايا المرأة والتحرر والطبقات المهمّشة. اشتهرت بروايتها الأشهر "المفكرة الذهبية"، التي أصبحت وثيقة مهمة في تاريخ الأدب النسوي، ونقطة تحول في كتابة السيرة الذاتية والتخييل السياسي.

لم تكن لندن مجرد محطة إقامة، بل محطة تحول فكري. هناك خاضت تجارب فكرية متعددة، اقتربت من الشيوعية ثم ابتعدت عنها، وانخرطت في نقد الأنظمة الشمولية والحروب. أصبحت صوتًا معارضًا لا يهدأ، وكاتبة تكرّس حياتها للكلمة المتمردة. ورغم شهرتها العالمية، حافظت ليسينج على تواضعها، حتى أنها لم تُصدق خبر نيلها جائزة نوبل حين أعلنت الأكاديمية السويدية فوزها.

رحلة دوريس ليسينج من طهران إلى زيمبابوي ثم لندن ليست مجرد انتقال جغرافي، بل رحلة عقل وروح ولغة. تلك الجغرافيا المركّبة صنعت كاتبة عالمية لا تنتمي إلى حدود، بل إلى الإنسانية كلها، كتبت عن الفقر، والعرق، والعلاقات الإنسانية، والسياسة، وعن القلق الوجودي الذي يعيشه الإنسان في عالم متحوّل.

واليوم، بعد عقود من كتاباتها، ما زال صوتها حاضرًا بقوة، لأن ما عاشته وما كتبته لم يكن حكاية شخصية، بل جزءًا من تاريخ العالم في القرن الماضي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق