كانت تمسك بالقلم بيدٍ ثابتة، كأنها توقّع للمرة الأولى على ميلادها من جديد، لا نهايةالقصة، لم تكن تبكي، لم ترتجف، فقط شعرت بنسمةٍ تمرّ في صدرها كريحٍ دافئة بعد خريفٍ طويل، كأنها فراشةٌ كانت حبيسة قفصٍ زجاجي، وها هي تُفتح الأبواب أخيرًا.
نظرت إلى الورقة أمامها، وإلى الخاتم الذي أزاحته عن إصبعها بهدوءٍ يشبه الصلاة، تذكّرت كل الخيبات الصغيرة التي خنقت قلبها، كل صمتٍ ابتلعته خوفًا من المجتمع وعيونه، كل تنازلٍ ظنّت أنه حب، والآن، وهي تضع النقطة الأخيرة في آخر سطر، شعرت كأنها تكتب أول كلمة في حكايةٍ تخصّها وحدها.
في المساء، عادت إلى بيتها وفتحت الأبواب على اتساعها، أضاءت الشموع، ووزّعت الحلوى على أطفالها وجاراتها وصديقاتها القريبات، كانت تضحك من قلبها، لا لتثبت شيئًا، بل لأنها تحرّرت فعلًا.
قالت وهي تُمسك فنجان قهوتها: «كنت أظن أن في الرحيل موت، فاكتشفت أنه بداية حياة لم أجرؤ على عيشها من قبل».
ذلك اليوم لم يكن حزنًا، بل احتفالًا صغيرًا بالنور، أغلقت هاتفها، جلست في الشرفة، تنظر إلى السماء التي بدت أوسع من أي وقتٍ مضى، لأول مرة منذ عام ونصف العام، لم تشعر بالخوف من الغد، كتبت في مفكرتها: «الحرية ليست أن أبتعد عنه، بل أن أقترب من نفسي».
تذكّرت قول إيكتارت تول في «The Power of Now»: حين تقبل ما هو، تنفتح أمامك أبواب التحوّل، بدأت تدرك أن الحياة لا تعاقبنا، بل تُعيدنا إلى أنفسنا بطريقةٍ مؤلمة أحيانًا، لكنها حقيقية.
كل ما خسرته كان يهيّئها لتعرف قيمتها، وكل بابٍ أُغلق كان يوجّهها نحو بابٍ لم تجرؤ أن تفتحه من قبل، لم تعد تخشى نظرات الناس ولا أسئلتهم ولا همساتهم، فهي لم تعد تبحث عن رضا أحد، السلام الذي بدأ يسكنها لم يكن هدوءًا بعد العاصفة، بل وعيًا بأنها صارت العاصفة والنور معًا، رفعت رأسها وقالت في نفسها: «أنا لا أعود إلى الماضي.. أنا أعود إلي نفسي».
ثم أغلقت دفترها، وابتسمت. ابتسامة امرأةٍ عرفت أخيرًا أن الحب الأول، الحقيقي، هو أن تُحبّ نفسك بصدق، في الأيام التالية، لم تكن تبحث عن نهاية سعيدة، بل عن حياة صادقة، اكتشفت أن الصمت الذي كان يؤلمها، صار ملاذًا جميلًا حين لم تعد تخافه، أن الوحدة ليست عقابًا، بل مساحة مقدّسة تُعيد فيها ترتيب ذاتها، وتستمع لصوتٍ كانت تطفئه طويلًا «صوت قلبها».
في كل صباح، كانت تستيقظ دون انتظار رسالة، دون قلقٍ من مزاج أحد، تُعدّ قهوتها على مهل، تضع موسيقاها المفضلة، وتبتسم ببساطة لأن اليوم لها وحدها، لم تعد تُبرر اختياراتها لأحد، ولم تعد تخشى أن تُخطئ، لأنها تعلّمت أن النضج ليس في الكمال، بل في الصدق مع الذات.
قالت لورين هيل ذات يوم: «لم أكن بخير وأنا أحاول أن أكون ما يريده الآخرون، صرت بخير فقط حين أصبحت ما أنا عليه حقًا»، بدأت البطلة تتذوّق الأشياء الصغيرة كما لو كانت اكتشافات جديدة، نزهة قصيرة بلا وجهة، قراءة كتاب عند الغروب، عشاء بسيط مع أبنائها، ضحكة من القلب بلا خوفٍ من كسر الصورة المثالية.
كل ذلك كان يشبه عودة النبض إلى قلبٍ أنهكه التظاهر بالقوة، لم يعد الماضي عدوًا، بل معلمًا صامتًا، لم تعد تلعن ما حدث، بل تشكره لأنه قادها إلى هذا النور الداخلي، صارت ترى وجهها في المرآة بلا حزن، تشعر أنها تعرف تلك المرأة جيدًا أخيرًا، تلك التي لم تفقد نقاءها رغم كل شيء.
تذكّرت كلمات أنطوان دو سانت إكزوبيري في الأمير الصغير: «لا يُرى جيدًا إلا بالقلب، فالجوهريّ غير مرئيّ للعين».
وهكذا بدأت ترى نفسها من جديد، بعين القلب، لم تعد تبحث عن الحب ليُنقذها، بل لتشاركه من موقع الامتلاء لا الاحتياج.
تعلمت أن السلام الحقيقي لا يُمنح، بل يُبنى، حجرًا فوق حجرٍ، على أرضٍ من وعيٍ وغفران، وفي ليلةٍ هادئة، كتبت على ورقة صغيرة علّقتها على مرآتها: «نجوت.. والنجاة لم تكن من أحد، بل من نفسي القديمة».
ثم أطفأت الضوء، واستسلمت لنومٍ ناعمٍ يشبه طمأنينة البحر بعد العاصفة، وفي الصباح التالي، نهضت بخفةٍ غير مألوفة، كأنها تستيقظ للمرة الأولى في عمرٍ جديد، لم تلتفت خلفها، لم تراجع القرارات، لم تفتّش في الوجع، كان الماضي هناك، لكنه لم يعد يملكها.
وقفت أمام المرآة، نظرت في عينيها طويلًا، وقالت بصوتٍ ثابتٍ وواثق: «انتهى الخوف»، كانت تعرف أن الطريق لم ينتهِ بعد، لكنه لم يعد يُخيفها، كل ما مضى صار خلفها كصفحةٍ قرأتها حتى آخر سطر، وفهمت معناها.. يتبع.







0 تعليق