عمرو منير يكتب: الشوكولاتة التي كشفتنا

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في مدخل مدينة الشيخ زايد، حيث تتباهى العمائر بلمعانها وتفوح واجهات المتاجر ببريق الطبقة الوسطى الحالمة بالهدوء والرقي، وقعت حادثة لا تستغرق أكثر من دقيقة في الزمن، لكنها كشفت هشاشة الضمير، وألقت ضوءًا كاشفًا على ما يمكن أن تفعله البيروقراطية حين تفقد روحها. كنت أدفع بعربة التسوق في أحد المتاجر الكبرى حين رأيت مشهدًا لا يُنسى: أم مصرية تحمل طفلًا على كتفها وتمسك بيد ابنتها الصغيرة، محاطة بعدد من أفراد الأمن. كانت الطفلة تبكي، والأم تتوسل وتقول بصوت مرتجف: "أنا مدرسة… والله بنتي صغيرة… أنا هدفع تمن الشوكولاتة." لم تكن هناك جريمة، لم يكن هناك سلاح ولا نية للسرقة، كان هناك فقط سوء فهم تحوّل إلى مأساة صغيرة عنوانها الكرامة المهدورة.

اقتربت محاولًا التهدئة، فطمأنني أحد أفراد الأمن عريض المنكبين بلهجةٍ مطمئنة: "سيادتك متقلقش، هنحل الموضوع دلوقتي." لكن شيئًا داخلي لم يرتح، كأن حدسي قال لي إن الكرامة لا تُحلّ بهذه السهولة. عدت بعد قليل لأفهم ما جرى، فوجدت مدير الأمن يستقبلني بوجهٍ متجهم، يقول بلهجةٍ صارمة: "الأم دي سارقة… ودول تعليماتنا… وهنطبّق اللائحة." سألته عن قيمة المسروقات فقال: "حاجات بسيطة… بس في غرامة تلات آلاف جنيه." نظرت إليه بدهشة، وسألته إن كان في اللائحة ما يفرض غرامة على طفلة في السابعة من عمرها، فأجاب بثقةٍ باردة لا تعرف الرحمة.

عرضت أن أدفع المبلغ كله، لكنه رفض في البداية، وبعد إلحاح وافق على مضض. وسددت فورًا قيمة البسكويت والشوكولاتة التي أكلتها الطفلة، إضافةً إلى ما وُجد معها من قطع أخرى، بما يقارب مئتين وعشرين جنيهًا دفعتها بالفيزا البنكية. ثم طلبت أن تُحصّل الغرامة بالطريقة نفسها، غير أن مدير الأمن أجابني ببرودٍ صادم: "الغرامة كاش… وبدون إيصال!"

عندها أدركت أنني لم أعد في متجر، بل في مسرح كبير لامتحان العدالة، حيث يفشل القوي في فهم الضعف، وتتحوّل الشوكولاتة إلى تهمة، وتصبح الإنسانية خيارًا يُمنع لا حقًا يُمارس.

بدأتُ مفاوضةً طويلة معه، امتزج فيها المنطق بالرجاء، والإنسانية بالدهشة. وبعد نقاشٍ شاق استمر دقائق ثقيلة، خفّض الغرامة تدريجيًا من ثلاثة آلاف إلى ألفٍ وخمسمائة، ثم إلى ألف جنيه فقط، وكأننا نتفاوض على ثمنٍ للرحمة لا على حقٍّ للعدالة. دفعت المبلغ كاش كما طلب، وأنا أشعر أني لا أدفع مالًا بل أدفع ضريبة على الكرامة، وأشتري لحظة هدوءٍ لأمٍّ انهارت أمام ابنتها.

استدعوا الأم مرة أخرى، والطفلة ما زالت تمسح دموعها الصغيرة بأكمامها. صرخ المدير أمام الجميع: "إنتي حرامية… وبنتك سارقة زيك"، ثم أجبر الأم على توقيع ورقة اعتراف بأنها سارقة، دون محامٍ أو سند قانوني، ودون مراعاة لطفلة تسمع كلمة "حرامية" تُلقى على أمها كالسوط. كانت تبكي وهي تبصم بإصبعها على الورقة، وبقلبها على جرح لا يُشفى. حاولتُ التدخل، لا من موقع سلطة أو قانون، بل بدافعٍ إنسانيٍّ خالص، وقلت له إن ما يحدث إهانة لا تربية، وإن الخطأ لا يُعالج بالفضيحة. لكنه لم يصغِ. ظلّ متمسكًا بلوائحه التي لا تعرف غير الأوامر. خرجت الأم تحمل ابنها على كتفها، والطفلة بجانبها تمشي في صمتٍ موجع. أربتُّ على رأسها وقلت لها: "متخافيش… كله تمام." لكنها لم ترد، كانت تنظر إليّ نظرة تشبه سؤالًا عن العالم، عن العدالة، وعن معنى الطفولة في مجتمعٍ يخلط بين الأمن والغلظة.

عدت إلى البيت، وما زالت تفاصيل المشهد تحاصرني. تواصلت مع صديقٍ وأستاذ جامعي متخصص في القانون الجنائي، فأكد لي أن ما حدث يخلو من أي سند قانوني، فلا غرامة من دون إيصال رسمي، ولا إقرار يُنتزع بالإجبار، ولا سلطة لأمن المتاجر على احتجاز أو تهديد أي مواطن. إنها إجراءات باطلة من أصلها، ومخالفة لقانون الطفل المصري الذي يعتبر مثل هذا السلوك تعريضًا مباشرًا للطفل للخطر وفقًا للمادة 96. فالقضية ليست في قيمة الشوكولاتة، بل في قيمة الإنسان. أين لجان حماية الطفل التي نصّ عليها القانون؟ أين خط نجدة الطفل 16000؟ وأين المجلس القومي للطفولة والأمومة؟ إن غياب هذه المنظومة يجعلنا نعيد إنتاج مشهد فيلم "جعلوني مجرمًا"، ولكن على رفّ بضائع الشوكولاتة بدلًا من أزقة الفقر. هل سننتظر أن تكبر هذه الطفلة وتصرخ يومًا: "أنتم جعلتموني مجرمة؟"

شجّعني الموقف القانوني الذي آزرني فيه صديقي الفقيه القانوني، والذي بادر بعرض دعمه متطوعًا لتقديم المساندة القانونية وتوفير كل ما يلزم من دعمٍ قانوني وإنساني. لقد أيقنتُ أن الشهامة لا يصنعها القانون، بل يصنعها ذوو الضمائر الحيّة. مدفوعًا بهذا الإحساس بالعدل، ذهبتُ إلى إدارة الماركت أبحث عن المدير، فلم أجده، فتركت ورقةً مختصرة أوضحتُ فيها ما جرى من تجاوزٍ في حقّ الأطفال، وتحصيل أموالٍ دون إيصال، ودعوتُ إلى مراجعة ما حدث ومحاسبة المسؤولين عنه.

وبعد أيامٍ قليلة، جاء الموقف النبيل الذي أعاد إليّ شيئًا من الإيمان بالضمير الإنساني. تواصل معي رجل أعمال معروف وأحد كبار الشركاء في إدارة هذا الصرح التجاري، بحديثٍ هادئٍ راقٍ ينضح بالوعي الأخلاقي، وقال لي معتذرًا: "أنا آسف… الستر أولى من الفضيحة، والرحمة ليست ضعفًا." ثم أكّد حرصه على تصحيح ما وقع، وأعاد المبلغ كاملًا عبر تحويلٍ بنكي رسمي، مع اعتذارٍ صادق عمّا بدر من بعض أفراد الأمن. كانت لفتته تلك أبعد من ردّ المال؛ كانت استعادةً لهيبة الإنسان أمام بيروقراطيةٍ قاسيةٍ نسيت أن الرحمة أيضًا قانون.

تلك المكالمة جعلتني أستعيد صور رجال الأعمال النبلاء الذين ربطوا بين الثراء والمسؤولية، بين التجارة والضمير. تذكّرت عبد الرحيم الدمرداش باشا الذي أنشأ مستشفى ما زالت شاهدة على عطائه، وسيد جلال الذي بنى المستشفيات ومدارس الفقراء، ومحمد العربي الذي لم يرَ في المال إلا وسيلة لبناء الإنسان قبل الجدران. أولئك لم يتركوا عقاراتٍ فقط، بل تركوا أثرًا في الضمير العام، لأنهم أدركوا أن التاجر الصادق هو الذي يستر إذا قدر، لا الذي يفضح إذا قوي.

ما حدث في زايد ليس واقعة فردية، بل إنذارٌ واضح إلى أننا نحتاج إلى إعادة بناء نظام الحماية من القاع. نحتاج إلى أن نعيد صياغة القانون بروحٍ جديدة تُوازن بين النظام والرحمة. فليست العدالة تلك التي تُمارس بالعنف، ولا الكرامة تلك التي تُشترى بإيصال. يجب أن تُفعَّل لجان حماية الطفل في كل حيّ ومركز تجاري، وأن تُدرّب كوادرها على التدخل الإنساني قبل القانوني، وأن يُلزم المولات الكبرى بتطبيق بروتوكولات واضحة لحماية الطفل. كما يجب إعادة تأهيل أفراد الأمن ليعرفوا الفرق بين الخطأ الطفولي والجريمة الحقيقية، وأن يُمنع تمامًا فرض أي غرامات دون سند قانوني أو إيصال رسمي.

الحكاية في جوهرها ليست عن شوكولاتة، بل عن وطنٍ يحتاج إلى أن يستعيد ضميره. عن العدالة حين تُفرغ من روحها، وعن القانون حين يتحوّل من درعٍ يحمي إلى سيفٍ يؤذي. في مدينةٍ راقيةٍ بكت طفلة لأن أمها أُجبرت على أن تقول عن نفسها "حرامية"، فلتكن هذه الواقعة جرس إنذار لا حكاية عابرة. فالذي لا يحمي الطفل في بكائه الأول، قد يُجبَر يومًا على محاكمته حين يصرخ: "جعلتموني مجرمًا."

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق