من نافلة القول أن نردد ما يمثل جوهر الإسلام، وأنه دين يرتكز على وحى هو الكتاب والسنة، وطريق محدد واضح الاعتصار، زبدة الوحى بواسطة إعمال لعقول رشيدة، وفطن عبقرية فذة تهتدى إلـى الحق وإلى صراط مستقيم.
عاشت الأمة فى هذه الأجواء الصحيحة المعقمة قرونًا طوالًا، لكن من الحق بإزاء ما قدمنا أننا نرى الآن بوادر فكر ينسبه ذووه إلى الإسلام وما هو من الإسلام.
فالفكر الإسلامى الخالص يستمد جوهره من الوحى لا من الهوى، والفكر الإسلامى تقود خطاه قواعد منهج وضوابط استنتاج، والفكر الإسلامى ناضج ممن لا يعرف الهوى أو التسطيح أو اللهاث وراء فهوم ساقطة لمجرد شهرة أصحابها أو انتمائهم إلى فصائل تزدهى بطاووسية الغيرة على الإسلام، وترفل فى بجاد من التعصب والتحزب لجماعات متطرفة هنا وهناك.
ولا غرو، فالعلماء الواثقون يجمعون على أن هذا العصر قد مُنى من قِبل هذه الجماعات المتطرفة والإرهابية بولادة فكر مبتسر يدعون أنه الإسلام الجديد.
نحن نؤمن بأن الإسلام فكر يُستقى من الوحى كتابًا وسنة جاء به رسول مؤيد بالمعجزات، أما أدعياء الإسلام الجديد فلقد ضاقوا بما قيد به العلماء الحقيقيون- الذين عكفوا سنين طويلة على دراسة ينابيع الشريعة الأصلية والفرعية- أنفسهم من أحكام شرعية مقررة، فالجهاد القتالى للدفاع عن الوطن ولحماية الدين والنفس من الاعتداء، وأنه لا يسارع إلى التكفير إلا الجهلة، وأن تكفير الحكام أمر ترفضه الشريعة، وأن مصلحة الدولة تعلو على مصلحة الأفراد، وأن مصر دولة إسلامية، وأن خطاب الجماعات المتطرفة خطاب عنصرى أحادى استعلائى، وأن دور العبادة لكل الشرائع السماوية لها الحماية فى الشريعة الإسلامية، وأن قتل الجنود المصريين فى سيناء من كبائر الذنوب.
وأجد من الأجدر هنا أن أترك الكلمة لشيخنا أديب الدعاة وداعية الأدباء شمس بلاد الشام وأبى الأزهر المعمور، شهيد كلمة الحق فى مواجهة تلك الجماعة الإرهابية، شيخنا المولى التقى الأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطى- رحمه الله- أجد لزامًا أن أعطيه الكلمة ليصدع فى كل المتلقين لهجومه من تلك الفئة الضالة، إذ يقول فى مفتتح كتابه «الجهاد فى الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه؟»:
«غير أننى ألاحظ أن هذا العصر يشهد ولادة إسلام جديد لدى أوساط أخرى من الناس، لا يتنزل وحيًا من عند الله وإنما ينبثق رؤى من أفكار بعض الناس وأمزجتهم، ولا تتحدد أحكامه على هدى النصوص وبسلطان من دلالاتها، وإنما نستبين فى خدام العصبية للذات أو الجماعة، أو ضمن سلطان الشهوات والأهواء. والذى يشهده العالم الإسلامى اليوم على مسرح الأحداث هو السعى اللاهث من رسل هذا الإسلام الجديد الذى لا عهد لنا به من قبل إلى إحلاله محل الإسلام الذى لا نعرفه إلى هذا اليوم إلا وحيًا من عند الله وبيانًا من هدى رسول الله، والتزامًا بما تقضى به دلائل النصوص القاطعة أو القواعد الفقهية الثابتة، أو اجتهادات جماهير أئمة أهل السلف، أولئك الذين شهدت لهم أجيال المسلمين بسعة علومهم ودقة فهومهم ووفرة الصدق مع الله والإخلاص له فى قلوبهم».
صدًا لذلك الصوت المستنير المتوازن نشطت فى عقل ووجدان موجات غضب مستعر من عبث هذه الفئات بالإسلام والمسلمين من خلال عدة طرق، باتوا يتسارعون فيها «لا يرقبون فى مؤمن إلًا ولا ذمة» ناشطين بالأقلام تارة وبأسلحة الإرهاب مرة أخرى، وإن كانت الأقلام ذاتها لديهم من أسلحة الإرهاب، فأنا أؤمن أن الإرهاب كلمة تسبق القنبلة، ومن رابع المستحيلات أن تتم مقاومة الإرهاب العملى إلا من خلال مقاومة الإرهاب الفكرى بالفكر الوسطى المستنير.
من هذا الأفق الإسلامى الواعى لحركة الفكر الرشيد وغير الرشيد يأتى هذا الكتاب يمثل صرخات فى الوادى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وإسلام الجماعات المتطرفة إسلام الفكر والمزاج والمصالح السياسية والأهواء يقرر مشروعية ذبح المسلمين البُرآء فى جنح الظلام من الوريد إلى الوريد، ويقرر مشروعية خطف طائرات مدنية مملوءة بركاب آمنين، ومشروعية وضعهم جميعًا بين ماضغى الموت دون أى ذنب اقترفوه، ومشروعية الاعتداء على مؤسسات الدولة وعلى القائمين على حمايتها من جيش باسل، وشرطة تقوم على خدمة المواطنين.
ويغمض أحدنا عينيه ليتخيل أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- موجود اليوم بيننا، أيبارك هذا الإسلام المزاجى ويقوده ويدعو إليه، ويقرر هذه الأحكام والتصرفات التى لا يرى أصحابها أنها تتصف بشىء من الغوغائية والفساد؟
والجواب واضح وبيّن لكل من أخضع فكره ومزاجه وعصبيته والجماعة التى ينتمى إليها لهدى رسول الله، فيجد أن رسول الله يمنع من ذلك كله، ولولا ما عكر الأجواء من مآثم هذه الفئة الباغية من مغالطات مكشوفة وبغى على صحيح الدين الإسلامى وسلوكيات لا يمارسها إلا العصابيون أو المرضى النفسيون ما كان هذا الكتاب.
وحسبك أن تعلم أن من أمثلة بغيهم ومغالطاتهم وإفكهم وحكمهم على الإسلام ما لم يأذن به الله ما سبق أن ذكرناه من سفك للدماء، وقتل للأبرياء وتخريب للأوطان.
وفى الختام يؤسفنى أن أقول: إن الإسلام قد ابتلى فى هذه المرحلة من الزمان ببعض من يزعمون أنهم دعاة، والحقيقة أنهم دعاة تحركهم بطونهم، فمنهجهم الإمساك بالعصا من منتصفها، ولا مانع لديهم أبدًا من أن يتغدوا على مائدة علىّ، ويسارعون باللحاق إلى العشاء على مائدة معاوية.
والعالم الحقيقى هو الذى يشد نفسه إلى الحكم الذى تؤيده دلائل الشرع ولا يفتش عن الحكم الذى يناسب الدهماء من الناس، أو الذى يجعل له شهرة بين العوام، أو الذى يجذب له المال من هنا وهناك، فهناك أناس يطبخون الفتاوى طبخًا، وهناك آخرون تحركهم مصلحة الجماعة، فآنًا يقول فى شىء بالتحريم وأخرى يقول فيها بالحل.
وصفوة القول إن النيات إذا صفت وإن القلوب إذا طهرت كان فى منطق العلم ما يجعلنا نواجه تلك الأفكار الضالة.
















0 تعليق