الأربعاء 05/نوفمبر/2025 - 09:32 ص 11/5/2025 9:32:35 AM
الشاعر، هو اسم الفيلم الكولمبي الذي يحدثنا بشاعرية عن إنسانيات وقيم ومعايير فقدناها في الأغلب ويظل البعض يتمسك بها.. وذلك من خلال قصة شاعر مرهف مغمور لديه ارث عريق يمكنه من امتلاك مقومات النجاح ولديه كذلك موهبة فطرية أصيلة شديدة البراءة تصل لحد السذاجة جعلته يحصد جميع مقومات الفشل والإحباط في عالم غير عادل بالمرة.
عالم قبيح وكاذب لا يستطيع ( أوسكار ) التعاطي معه و( أوسكار ) هو إسم بطل العمل الذي أدى دوره الممثل غير الشهير ( أوبيمار ريوس ) فأدمن ( أوسكار ) الخمر وكان الكسل (و هو أبو العبودية ) لصيقًا به كذلك البكاء المتكرر كالطفل الضعيف الذي بلا حيلة حيال كل ما يحدث من حوله وهو من يتوق لعالم مثالي يحيا فيه الناس في بهجة وحبور.. وينحاز مخرج الفيلم ذو الموهبة الأصيلة المخرج ( سايمون سوتو ) لتلك النماذج الطيبة المهمشة او التي يراها الآخرون هامشية فيهمشونها !
و قد شارك (سوتو ) من قبل بفيلمه ( امبارو ) وكتبت عن هذا الفيلم عند عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي من سنوات وفاز آنذاك بجائزة في المهرجان وهذا العام يشارك المخرج المتفرد مرة أخرى بفيلمه الجديد ( شاعر ) في فعاليات مهرجان الجونة ٢٠٢٥ ويحصد جائزته الذهبية ( نجمة الجونة الذهبية ) عن استحقاق وجدارة.. فأفلامه شديدة العمق والصدق والأصالة وتنحاز للبسطاء بعذوبة متناهية.. فالمواطن الكولومبي البسيط الفقير هو البطل في افلام ( سوتو )
فأبطاله هم الناس العاديون الذين تراهم حولك في الشوارع والبيوت والطرقات.. فيهم الخير وفيهم الشر وينتصر دوما لهم ولنواقصهم.. وساق لنا هذه المرة (سايمون سوتو ) شخصية الشاعر الذي تربى على إرث حقيقي صار عبئًا عليه في زمن الماديات الملىء بالقسوة الظاهرة والمستترة.. فان تكون شاعرا مرهفا شفافا مثاليا في عالم لم يعد يعترف بكل ذلك فأنت تعاني وتنزوي في خندقك الأخير لتحتمي به..و رغم ذلك يظل الواقع يلاحقك وينكزك وينغص عليك حياتك فتقوم وتنهض لتقامر وتغامر بكل ما تربيت عليه ف(أوسكار) -و هنا اجد دلالة للاسم - فاسم بطل العمل في ذاته أراه تكريما له.
تكريما للشاعر الحقيقي والإنسان الرهيف الذي ينشد العدل المطلق المستحيل.. فاسمه يطلق على اكبر واشهر الجوائز التي تمنحها الولايات المتحدة للمبدعين ويرى المخرج أن بطله الشاعر الرهيف يستحق الأوسكار الذي لا تمنحه تلك الولايات اليوم لداعمي الإنسانية او السلام.. وان بطله ايضًا لا يقل أهمية عن الشاعر والروائي الإنجليزي الشهير ( أوسكار وايلد ) لكن العالم الأول لا ينظر بتاتًا لكولومبيا وشعوب امريكا الجنوبية..و يراهم كما يرانا نحن شعوب العالم الثالث في منزلة اقل !
و (أوسكار ) ايضًا كان الطفل الذي كتب خطابات أرسلها لله وهو مريض بالسرطان في رواية لا تقل رهافة عن ذلك الفيلم الأصيل الرهيف وهي رواية ( أوسكار والسيدة الوردية) للروائي الفرنسي (ايريك إيمانويل شميث ) الذي كتب ثلاثية عن الأديان بدأها بنص عن المسيحية هو ( أوسكار والسيدة الوردية ) الذي ترجمه للعامية المصرية المترجم والممثل المصري ( محمد صالح ) الذي حكى وجسد شخصية الطفل ( أوسكار ) على مسرح ( روابط ) في القاهرة من سنوات.. فشخصية الطفل تشبه في براءتها ومقدرتها على الحكي بطل الفيلم ( أوسكار ) ولهاثه باحثًا عن اليقين وعن الطريق الذي عليه ان يسير فيه بعد ان اغلقت في وجهه كل الطرق فأنصاع لقرار شقيقته الكبرى وعمل مدرسًا في احد مدارس كولومبيا.
و هنالك التقى بفتاة في عمر ابنته تدعى ( يورلاندي ) قامت بأداء دورها الممثلة الشابة ( ريبيكا اندرادي) والتي تشبه غيرها من بنات كولومبيا اللاتي يحاصرهن الفقر رغم امتلاكها لموهبة شعرية كبيرة فكانت تكتب الشعر ببساطة وتلقائية عن يومياتها فصارت تلك الفتاة بالنسبة لأوسكار هي هدية القدر وحبل الوريد الذي شده وجذبه لذاته وأعاده للحياة مرة أخرى.. فالشاعرة الصغيرة جعلت أوسكار يستعيد حلم الشعر الذي فشل فيه وفي نفس الوقت عوضته الفتاة عن فقده لأبنته التي لا تريد رؤية أبيها وتراه عديم الفائدة.
فكانت (يورلاندي ) المعادل الموضوعي الذي أراد له ومن خلاله ( أوسكار ) النجاح كأب بعد سلسلة من الإخفاقات كي تفتخر به ابنته ويكون قدوة لها وكذلك ينجح ايضًا في اكتشاف موهبة شعرية حقيقية يقدمها لبيت الشعر لتمثل كولومبيا بإرثها العريق في مسابقة يدعمها الغرب والعالم الأول رغم ان بلاد ماركيز قد أبدعت للعالم اعظم النصوص على الإطلاق ( ١٠٠ عام من العزلة ) التي تم التطرق اليها و(أوسكار ) يجادل مشرد سكران مثله على ارصفة كولومبيا التي يفترشها كلاهما بعد حوارات طويلة عبثية صماء بل وعدمية حول الشعر وعظمة الإبداع في البلاد.
و يصحح( اوسكار ) معلومات صديقة المشرد الشعبوية الخاطئه والخلط ما بين (ماركيز ) و(باولو كويلهو )فكلاهما ينتمي لأمريكا اللاتينية لكن ( كويلهو ) كاتب من الأرجنتين بشهرة لاعب كرة على مستوى العالم وإبداعاته لا نستطيع ان نقول إنها الاقل قيمة او أهمية ولكن تظل إبداعات (ماركيز ) هي الأعمق على كل حال رغم كونه الأقل شهرة بالنسبة للمواطن او الإنسان العادي الذي يعرف (كويلهو ) اكثر من صاحب (١٠٠ عام من العزلة) ! وبفضل ( يورلاندي ) خرج ( أوسكار ) من بئره الأسود الذي قبع فيه لسنوات واسترد شغفه وصار لديه الدافع والأمل في إيصال شعر (يورلاندي ) للعامة بل وللعالم المتحضر فتنجح هي فيما فشل هو فيه وأصبح ( أوسكار ) مدمن الخمر في يوم وليلة معلما موجهًا للشاعرة الصغيرة سعيدا بنجاحها.
و صعدت( يورلاندي ) بفضله سلم المجد وظهرت واسرتها الفقيرة عبر شاشة التليفزيون وفازت في مسابقة الشعر التي تدعمها (هولندا) التي تمول مشاريع المبدعين في الدول الفقيرة وتمنحهم المنح ان كان ما يتحدثون عنه يدعم أهداف تلك الدول المانحة - بشروط - والتي ترى أنها تناصر الإنسان وحقوقه.. بالطبع عندما يتحدث ذلك الإنسان فقط عن القضايا التي يحب المانح ان يتحدث عنها المبدعين كالفقر والظلم ومشكلات المجتمع والمرأة واللون إلخ من صيغ الإنتاج المشترك والمنح والدعم التي تتحكم ايضا في السينما وفي إنتاجات الأفلام.
فصيغ وتيمات مثل (عمالة الأطفال) ( ختان الإناث ) (قهر المرأة ) ومشكلاتها هي التيمات المحببة التي تحصل على التمويل والدعم كذلك الأمر في الشعر وفي كل الإبداعات..و يسخر ( سوتو ) في فيلمه من كل ذلك ويعريه لذلك طُلب من ( يورلاندي) -التي لم تستطيع الهولندية الشقراء نطق اسمها بشكل صحيح - ان تتحدث عن لون بشرتها السمراء الذي تسبب لها في التعاسة وعرضها للتنمر فهي البدينة القبيحة بالنسبة لأناس العالم الاول ! والعجيب ان الأطفال من أسرة (يورلاندي ) قد مارسوا ذات التنمر على ( أوسكار ) ووصفوه بالقبيح لأنه لا يهتم لهندامه ولأنه فقير مثلهم !!
فالفقراء ومن يعانون ليسوا رحماء فيما بينهم على العكس مما نتوقع او على العكس مما يجب ان يكون ! ولكن (أوسكار ) الذي تشبع بالإنسانيات منذ اول مشهد له في الفيلم ويبدو عليه القلق على أمه ويسألها -رغم اكتئاباته وإحباطاته - عن صحتها بعد اجرائها للفحوصات في المستشفى ' فارتباط أوسكار بأمه بل وبإبنته كارتباط الطفل الصغير بذويه.. فرأينا أوسكار وهو يتجول بسيارة أمه باكيا في شوارع كولومبيا.. ويقترض المال من ابنته وهو ايضا يبكي لعلمه انه هو من يجب ان يقرضها وهو من يجب ان يكون العون لأمّه.. لكن هذه هي المرأة دومًا في أفلام ( سوتو ) الواقعية.
المرأة هي العنصر الأقوى هي القوية وهي القائد هكذا يرى ( سوتو ) نساء بلاده الأقوياء صاحبات القرار رغم فقرهن او قبحهن او بدانتهن ان قارناهن بمقاييس ومعايير الجمال لدى نساء العالم الاول.. لذلك نجد في أعمال ( سوتو ) دومًا ابنًا يحتمي بامه.. وظهرت تلك التيمة بشكل جلي في فيلم ( امبارو ) وفي فيلم ( شاعر ) فكلا الابنين او الرجلين في العملين مرتبط بامه ارتباط وثيق.. وبدونها يصير ضائعا هائما على وجهه في طرقات هذا العالم الموحش.. والأم في العملين هي المانحة وهي السند والنساء عموما أقوى من الرجال ولديهن مواقف حازمة حاسمة.
و هكذا كانت ابنة (أوسكار ) في الفيلم وهكذا كانت ايضًا (يورلاندي ) التي تعرف ما تريد وترى نفسها مسئولة عن اسرتها وأبناء اختها وتريد منحهم المال والطعام والحياة الأفضل وهدفها مساعدتهم وترى سعادتها في دعمهم ومنحهم وتكره الشعر ولا تريد ان تكون شاعرة..هذا ما يريده ( أوسكار ) لها كنوع من التعويض لنفسه والتماهي معها في موهبتها الشعرية اما هي فكل ما تتمناه هو ان تبتاع لنفسها طلاء أظافر لامع فهي تفتقر في حياتها الباهتة القاسية -بسبب الفقر والعوز - كل ما هو براق لامع يجتذب نظرها.. فيسعدها النظر لأظافرها الطويلة الاصطناعية التي تهتم بتركيبها كي تبدو اكثر جمالا..و تريد ان تعمل في مجال الزينة لتجمل بنات حيها وتتكسب من وراء ذلك.. وظهرت أم (يورلاندي ) في الفيلم ايضا كأم قوية تدافع عن حق طفلتها ضد (أوسكار) ! الذي كان ضحية اصدقائه غير المخلصين الذين وصفتهم أمه بانهم لا يحبوه بعد أزمة حفل بيت الشعر الذي ثمل فيه الجميع بما فيهم الهولندية الشقراء المانحة التي تمول فقط الاشعار التي تكتب عن الحي الكولمبي الفقير الذي ينتظر المعونة وأموال الدعم !
ووقفت ام ( يورلاندي ) كالصقر الذي يلتهم من يقترب من ابنتها وكان (أوسكار ) كما أوضحت هو الضحية التي صوّبت تجاهه السهام والاتهامات بالتحرش بالفتاة وفتيات بيت الشعر بعد ان ثمل وارتبك وأساء التصرف فحمل (يورلاندي ) -التي فقدت الوعي - على كتفه ووضعها أمام بيت أسرتها فصار موضع شبهة واتهام رغم محاولات الفتاة الدفاع عنه.. وكان لاخيها المراهق رأي آخر فذهب لأوسكار وأوسعه ضربا وطرحه ارضًا ! وفي محاولة من رجال بيت الشعر حل تلك الأزمة كي لا يطالهم ضرر قانوني فالفتاة قاصر واحتسائها للخمر دون السن القانونية مشكلة كبيرة فعرضوا المال على أسرة الفتاة الفقيرة.. وكي يضمنوا عدم خداع الأسرة لهم بعد حصولهم على المال باللجوء للمحكمة وطلب التعويض طلبوا منهم تصوير فيديو يشكرون فيه بيت الشعر وتعتذر وتعترف فيهز( يورلاندي ) بأنها ثملت من تلقاء نفسها وان (أوسكار ) لم يتحرش بها.
و رغم ان (أوسكار ) هو المتضرر الأكبر من تلك الواقعة وكان يريد براءته كي لا يفقد وظيفته في المدرسة وكي يبرء ساحته أمام ابنته التي عايرتها زميلاتها في المدرسة بأبيها الفاشل المتحرش ! ورغم كل ما سبق.. رفض أوسكار تصوير عائلة الفتاة الفقيرة وهم يجلسون صفا واحدًا وكاميرا الموبايل تلتقط لهم بسيف المال فيديو يمتنون فيه لكرم بيت الشعر الذي قدم لهم المال ويشكرونه على ذلك فشعر بالامتعاض والاسى ورفض اذلال الأسرة بهذا الشكل الرخيص في مشهد لاهث ملحمي تتحدث فيه العيون (عيون الفقراء ) المغلوبين على امرهم وعيون أوسكار الذي لم يحتمل عليهم رغم اتهامهم له كل هذا الذل.
ومن قلب كل تلك المتناقضات يتجسد أمامنا مشهد إنساني مؤثر وموتر غاية في الروعة ينتزع فيه ( أوسكار ) الموبايل من يد رئيس بيت الشعر وتقوم معركة صغيرة في البيت ينتصر فيها شقيق ( يورلاندي ) ل( أوسكار ) الذي اصطف معهم لا عليهم.. وينتهي الفيلم برسالة طويلة تبوح فيها (يورلاندي ) لابنة أوسكار بحقيقة ما حدث بعد ان رفضت الابنة لقاء أبيها وطلبت منه ان يدعها وشأنها وانه غير مرغوب فيه في حياتها ويتماشى فينال العمل الأصيل مع مشهد أخير يكمل أطروحات الفيلم.. عندما اعتلت صحة الأم ( مصدر الحماية والرعاية والأمان لأوسكار) الذي جاوز الأربعين لكنه في عينها وعين نفسه الطفل البريء الساذج.. فيهرع للمستشفى ويجلس باكيا كعادته بجانب أمه وتبدو شقيقته اكتر صلابة منه بكثير.. ثم تأتي ابنة ( أوسكار ) للمستشفى ليس فقط لترى جدتها بل لتدعم أبيها -و كأنها أمه لا ابنته- التي تسهر على رعايته.
و بالفعل تحتضن الابنة أبيها في نهاية الفيلم ويبكي هو على صدرها كالطفل وتبتعد الكاميرا ويظلان هما في الكادر ويترك لنا صانع العمل تلك النهايه المفتوحة فنحن لا نعرف مصير الأم ولا نعرف ايضا ماذا بعد ولكن ما عرفناه ورأيناه هو استعادة أوسكار لإبنته واحتوائها له وكانّها أمه الثانية او أمه البديلة وهو الطفل الصغير الذي يحتاج لحنانها واحتوائها لتطمئن نفسه الحائرة فهو الأكثر رهافة وهي حتمًا الأقوى كنساء كولومبيا في عيون المخرج الكولمبي الفذ المهموم بتراثه المتشرب لثقافته والذي لم يفقد انسانيته وانحيازه لإناسه العاديون فهم على علاتهم أبطاله الحقيقيون الذين يستحقون ان يكونوا في الواجهة والصدارة لا خارج الكادر تماما كما احتفى بملهمه -المبدع الكبير فخر امريكا اللاتينية الأول ( جابريل جارسيا ماركيز ).











0 تعليق