الثلاثاء 04 نوفمبر 2025
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
ثقافة
 بعد انتظار دام نحو 20 عاما.. يستطيع عشاق الحضارة الفرعونية اليوم أن يزوروا المتحف المصري الكبير، بعد أن فتح أبوابه رسميا أمام الجمهور بعد حفل الافتتاح العالمي الذي شهده الرئيس عبد الفتاح السيسي وعدد من قادة العالم يوم /السبت/ الماضي.
واعتبارا من اليوم /الثلاثاء/ يفتح المتحف المصري الكبير أبوابه أمام الجمهور؛ ليكتب فصلا جديدا في علاقة المصريين بحضارتهم الممتدة عبر سبعة آلاف عام. 
فعند سفح الأهرامات، حيث يقف الزمن مبهورا بعظمة المصري القديم، تتلألأ الواجهات الزجاجية العملاقة للمتحف، وتعكس إشراق شمس القاهرة على أكبر مشروع ثقافي في تاريخ مصر الحديث، وأحد أضخم المتاحف الأثرية في العالم.
منذ لحظة دخول الزائر إلى الساحة الأمامية، يجد نفسه في مواجهة تمثال رمسيس الثاني المهيب، الذي استقبل المارة لعقود في قلب القاهرة قبل أن ينتقل ليستقر في مكانه الجديد كحارس على بوابة التاريخ. 
ثم يأتي الدرج العظيم، قلب المتحف وروحه.. سلالم فسيحة تصعد بك وسط تماثيل ضخمة لملوك مصر، بينما الأهرامات تلوح أمامك من خلف الزجاج في مشهد لا ينسى. إنه طريق صاعد نحو الزمن الجميل، ممر بين الماضي والحاضر، بين الحجر والسماء.
المتحف - الذي تبلغ مساحته الإجمالية نحو 500 ألف متر مربع - يحتضن أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تمثل مختلف العصور المصرية القديمة من ما قبل التاريخ حتى العصرين اليوناني والروماني، لكنه لا يكتفي بعرض الماضي، بل يقدمه برؤية حديثة تدمج بين التكنولوجيا والفن، حيث تستعين قاعاته بالوسائط التفاعلية والعروض الرقمية ثلاثية الأبعاد التي تتيح للزائر أن يعيش تجربة غامرة لا تشبه أي زيارة متحفية تقليدية.
من أبرز ما ينتظره الزوار اليوم هو كنوز الملك توت عنخ آمون التي تعرض كاملة للمرة الأولى منذ اكتشافها عام 1922.. أكثر من خمسة آلاف قطعة من مقتنيات الفرعون الذهبي نقلت بعناية إلى قاعات صممت خصيصا لتتناسب مع طبيعتها الدقيقة، من عرشه الذهبي وتوابيته المزخرفة إلى مجوهراته وأدواته اليومية التي تكشف تفاصيل الحياة الملكية في أبهى عصورها. 
وقاعة توت عنخ آمون ليست مجرد عرض أثري، بل تجربة حسية شاملة تجمع الضوء والصوت والظل في سرد بصري يخطف الأنفاس.
أما القاعة الكبرى، فتضم مجموعة من القطع النادرة مثل تمثال أمنحتب الثالث وزوجته تيي، ولوحات ملونة من مقابر النبلاء، ونماذج من المعابد والمراكب الجنائزية. 
كما يحتوي المتحف على مركز للترميم يعد من الأكبر في الشرق الأوسط، جهز بأحدث التقنيات العالمية التي تسمح بإجراء أبحاث علمية دقيقة في صيانة الآثار وحفظها.
ورغم أن المعروضات هي قلب المتحف النابض، فإن تجربة الزيارة نفسها هي ما يجعله مختلفا.. فكل تفصيلة في تصميمه المعماري تحمل روح مصر الحديثة التي تكرم ماضيها وتخاطب المستقبل. 
والممرات الواسعة، الإضاءة المدروسة، الأنظمة الذكية للإرشاد، وحتى المقاهي والمطاعم التي تطل على الأهرامات، كلها صممت لتجعل من الزيارة رحلة استثنائية تمزج بين المتعة الثقافية والدهشة البصرية.
المتحف المصري الكبير ليس مجرد معرض أو مخزن للآثار، بل هو منصة ثقافية وسياحية عالمية تهدف إلى إعادة تعريف صورة مصر في الوعي الدولي، فإلى جانب قاعاته المتحفية، يضم مجمعا للمؤتمرات ومسرحا وسينما ومكتبة متخصصة ومتحف مخصص للأطفال، ما يجعله مركزا نابضا بالحياة، مفتوحا أمام العلماء والطلاب والزوار من مختلف أنحاء العالم.
ويقول القائمون على المشروع، إن افتتاح المتحف أمام الجمهور يمثل ذروة جهد استمر لأكثر من عشرين عاما، شارك فيه آلاف الخبراء والمهندسين والعمال المصريين، بدعم دولي وشراكات علمية مع كبرى المؤسسات المتحفية في العالم.. وبذلك يتحول المتحف إلى رمز ليس فقط للحضارة القديمة، بلا أيضا لقدرة المصريين على صنع معجزات معاصرة بحجم التاريخ نفسه.
اليوم، حين تتفتح الأبواب أمام الزوار لأول مرة، لن يكون المشهد مجرد حدث سياحي، بل احتفال بهوية أمة تواصل كتابة قصتها منذ الأهرامات حتى الحاضر.
فزيارة المتحف المصري الكبير ليست مجرد نزهة في الزمان، بل رحلة في روح مصر: من عبقرية الفن الفرعوني إلى ابتكارات الهندسة الحديثة، ومن أسرار الملوك إلى أحلام الجيل الجديد.
إنه المكان الذي يلتقي فيه الماضي بالحاضر في لحظة أبدية، حيث تروى الحكاية الأعظم على وجه الأرض بلغة الضوء والحجر والذهب. 
ومن يقف اليوم أمام بواباته، سيدرك أن المتحف المصري الكبير ليس فقط هدية مصر للعالم، بل وعد بأن حضارتها لا تزال قادرة على الإلهام، وعلى الدهشة، وعلى البقاء خالدة كما كانت دائما.
لا يقتصر سحر المكان على معروضاته، بل يمتد إلى كل تفاصيل التجربة. الشاشات التفاعلية، العروض ثلاثية الأبعاد، الصوت والإضاءة التي ترافقك كدليل خفي، الشرفات والأماكن التي تطل على الأهرامات، المساحات الخضراء التي تذكر الزائر بأنه في قلب التاريخ لكن داخل مصر الحديثة بكل طاقتها وحيويتها.. إنه مشروع جمع بين أيادي الحرفيين القدماء وروح المهندسين المعاصرين، بين عبقرية التصميم ودقة الترميم.. فمعمل الترميم العملاق داخل المتحف، الذي يعد من الأكبر في الشرق الأوسط، يعمل كجراح دقيق يعيد الحياة إلى القطع التي صمدت لآلاف السنين، لتبقى شاهدة على قصة الإنسان الأول الذي صنع حضارة لا تشبه أي حضارة أخرى.
افتتاح المتحف اليوم ليس مجرد حدث ثقافي أو سياحي، بل لحظة وطنية وإنسانية تمس كل مصري. فمن يقف في باحته يشعر بالفخر، ومن يزور قاعاته يدرك أن مصر لا تزال قادرة على أن تُدهش العالم كما فعلت منذ آلاف السنين. 
هو وعد جديد بأن هذه الأرض التي علمت البشرية الكتابة والفن والعمارة، لا تزال قادرة على تقديم الجمال في صورته الأنقى.
كل زائر اليوم سيغادر المتحف وفي قلبه شيء تغير: ربما دهشة، ربما فخر، وربما شعور عميق بالانتماء لجذور تمتد أعمق من الزمن نفسه. هنا، لا يمر الوقت، بل يتوقف احتراما لعظمة من عاشوا وصنعوا وبنوا وتركوا لنا ما نحتفل به اليوم.
المتحف المصري الكبير ليس فقط هدية مصر للعالم، بل مرآتها التي تعكس وجهها الحقيقي: بلد لا يشيخ، ولا يتعب، ولا يفقد شغفه بالحياة. ومن أمام تمثال رمسيس، وبين أروقة الملوك، ستعرف أن الحضارة ليست هي ما مضى.. بل ما لا يزال قادرا على أن يلهمنا كل يوم.




            




0 تعليق