لمن لا يفهم.. مصر والسودان تاريخ ومصير واحد!

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في أول تصريحات له بعد إعلان ميليشيات الدعم السريع، أنها استولت على مقر قيادة الجيش في الفاشر، آخر معاقل الجيش الوطني في إقليم دارفور، أوضح رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، سبب انسحاب القيادة التابعة له الموجودة في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، بأنه (وافقناهم على أن يغادروا المدينة ويذهبوا إلي مكان آمن، حتي يجنبوا بقية المواطنين وبقية المدينة الدمار).. مؤكدًا أن (هذه محطة من محطات العمليات العسكرية التي فرضت على البلاد)، وذكر أن (القوات المسلحة ستنتصر لأنها مسنودة بالشعب، ويقاتل معها كل أبناء الشعب.. وهذه المعركة ستحسم لصالح الشعب السوداني)، كما أكد العزم على (الاقتصاص لما حدث للأهل في الفاشر)، على (الجرائم التي ارتكبت الآن في الفاشر، وارتكبت قبل ذلك في كل بقاع السودان على مرأى ومسمع من العالم، ووجهت بالصمت من المجتمع الدولي).

وسيمثل الاستيلاء على الفاشر انتصارًا لميليشيا الدعم السريع، قد يعجل بتقسيم البلاد، من خلال تمكينها من ترسيخ سيطرتها على إقليم دارفور الشاسع، الذي زعمت أنه مقر حكومة موازية تم تشكيلها خلال هذا الصيف.. وقد أظهر مقطعا فيديو نشرتهما قوات الدعم السريع، عناصرها وهم يهتفون أمام لافتات تشير إلى قاعدة المشاة السادسة التابعة للجيش.. صحيح أنه كان ذات الموقع، لكن دون تحديد التاريخ.. ويأتي ذلك بعد أن أعلنت ميليشيا الدعم السريع، يوم السبت الماضي، سيطرتها على مدينة بارا في شمال كردفان، الولاية التي تشكل حاجزًا بين دارفور والعاصمة السودانية والنصف الشرقي من البلاد الخاضع لسيطرة الجيش.

كانت المواجهات بين الجيش السوداني، بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ومليشيات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي، قد تجددت اليوم السبت، بعد فترة من الهدوء النسبي الذي شهدتها الساحة السودانية خلال الأسابيع الماضية.. ووفق مصادر سودانية، فقد استهدفت طائرات مقاتلة مجهولة الهوية، مواقع تمركز تابعة لمليشيات الدعم السريع، إضافة إلى طائرات شحن عسكرية، كانت قد وصلت حديثًا محمّلة بمعدات وأسلحة وآليات متطورة، فضلًا عن مرتزقة جرى استقدامهم لدعم صفوف المليشيات في مواجهة الجيش السوداني.. وأشارت المصادر إلى أن الضربات الجوية أصابت الطائرات قبل أن تُفرغ حمولتها، مما أسفر عن تدمير كامل لشحنة يُعتقد أنها كانت تمثل صفقة أسلحة ومعدات نوعية تُعد الأهم لحميدتي منذ اندلاع الصراع، ربما استند إليها في ممارسة وقاحته بالقول إن أي طائرة ستنطلق من مطار دولة مجاورة، ستعتبر هدفًا لنا!!.. كما أكدت التقارير، سقوط طائرة خلال محاولة هبوطها في أحد المدارج داخل الأراضي السودانية، دون إعلان رسمي حتى الآن بشأن هويتها أو تبعيتها.. في المقابل، رجّحت المصادر أن طائرة أخرى قد هبطت في دولة مجاورة، يُعتقد أنها جمهورية إفريقيا الوسطى، بعد تعرضها لعطل أو محاولة فرار من الضربات الجوية.

هذا التطور الميداني تزامن مع تصاعد التوترات مجددًا بين الجيش والدعم السريع، في وقت تسعى فيه جهود الوساطة الإقليمية والدولية إلى إعادة إحياء مسار التفاوض المتعثر بين الطرفين.. وفي ذلك، رأى المستشار الدبلوماسي الرئاسي في الإمارات، أنور قرقاش، أن خسارة الجيش السوداني السيطرة على مدينة الفاشر تستوجب (التعقّل والواقعية)!!، والقناعة بأن الحل السياسي هو السبيل الوحيد لإنهاء الحرب في السودان.. وكتب قرقاش عبر صفحته على منصة X، (خسارة الجيش السوداني لمدينة الفاشر بعد حصار طويل، تمثل محطة تستوجب التعقّل والواقعية، وإدراك أن المسار السياسي هو الخيار الوحيد لإنهاء الحرب الأهلية)، قائلًا، (بيان الرباعية وخريطة الطريق، يشكّلان الإطار المدعوم دوليًا لاستعادة الاستقرار، والوضع الإنساني الحرج لا يحتمل المزيد من التصعيد)، دون أن يوضح قرقاش، كيف ذلك؟.. وعلى حساب مَنْ؟.. ولم يُشر إلى ضرورة كف الدولة التي تدعم ميليشيا الدعم السريع، أيديها التي أصبحت مُلطخة بدماء الأبرياء في السودان، ولا نعرف كيف تتحمل هذه الدولة جرائم اغتصاب النساء في بلد شقيق؟!.

●●●

لقد حاصرت قوات الدعم السريع مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، على مدار الثمانية عشر شهرًا الماضية، وقعت خلالها معارك ضد الجيش الوطني السوداني.. واستهدفت المدنيين بغارات متكررة بالطائرات بدون طيار وبالمدفعية، بينما أسفر الحصار عن مجاعة لربع مليون شخص لا يزالون في غرب المدينة.. وكثيرًا ما حذر بعض النشطاء، من أن سيطرة ميليشيا الدعم السريع على المدينة، سيؤدي إلى هجمات انتقامية عرقية، كما حدث بعد الاستيلاء على مخيم زمزم للنازحين إلى الجنوب.. وفي الأسبوع الماضي، قالت ميليشيا الدعم السريع، إنها تعمل على تسهيل خروج المدنيين والمقاتلين المستسلمين من الفاشر، لكن الذين غادروا أبلغوا عن عمليات سطو واختطاف واعتداءات جنسية وقتل، على يد جنود هذه الميليشيا على الطريق.. وقالت بعثة مفوضة من الأمم المتحدة الشهر الماضي، إن قوات الدعم السريع، ارتكبت جرائم متعددة ضد الإنسانية خلال حصارها الفاشر.

بعد استيلاء قوات الدعم السريع على الفرقة السادسة للجيش السوداني (مؤقتًا)، فقد أعلنت سيطرتها على مدينة الفاشر في غرب السودان.. وللأسف، هي آخر معقل للجيش الوطني في إقليم دارفور كله، وبهذا، من الممكن أن تنتهي الحرب باستقلال دارفور عن السودان وتكرار تجربة جنوب السودان مرة أخرى، إذا أستسلمت القوات المسلحة السودانية أو دخلت في طريق المفاوضات السياسية.. خصوصًا وأن إقليم دارفور، البالغ مساحته 493 ألف كيلو متر، أي قرابة نصف مساحة مصر، يسبح فوق بحر من الثروات الطبيعية، تستحق اندلاع حرب عالمية وليس مجرد حرب بالوكالة، تكلفتها صفر على الشمال مقابل هذه الثروات، التي تشمل الذهب واليورانيوم والنحاس والجرافيت والماس والزنك والرصاص والألمنيوم والكروم والفوسفات واليورانيوم والحديد والأحجار شبه الكريمة مثل العقيق، والعطرون والماس، بجانب مخزون نفطي عملاق يحتاج للتنقيب عنه، حيث اكدت الدراسات الجيولوجية، أن الجزء الجنوبي من إقليم دارفور يطفو على بحيرة من المخزون النفطي، وتحتوي أراضي الإقليم ست بحيرات مياه جوفية، تصلح لاستصلاح ملايين الأفدنة بمختلف أنواع المحاصيل، إلى جانب الأهمية الاستراتيجية للإقليم، الذي يطل على إفريقيا الوسطى وتشاد وجنوب السودان وليبيا، وبالقرب من مصر، وهذا يعني، أن هذا الإقليم، من السهل جدًا أن يصبح مصدر إزعاج كبير للقاهرة لاحقًا.

إذن، لا مشكلة في إنفاق بضعة مليارات من الدولارات على المرتزقه متعددي الجنسيات، وعلى زعيمهم تشادي الأصل، خصوصًا وأن دول الجوار التي تساعدهم سرًا، مثل إفريقيا الوسطى، كانت حتى وقت قريب تقوم بمذابح تطهير عرقي للمسلمين على أراضيها.. يعني ليس مشكلة أن يموت بضعة مئات الألوف من المسلمين المدنيين، مع عدم تغطية إعلامية، ولا يوجد من يهتم بهم أصلًا.. أو يكون الدواء الأكثر طلبًا بالصيدليات، هو حبوب منع الحمل، بسبب ألاف عمليات الإغتصاب الممنهجه يوميًا.. كل هذا لا يساوي شيئًا أمام الاستيلاء على ثروات بمئات المليارات من الدولارات، للسادة كبار العالم ووكيلهم الإقليمي في المنطقة!!.

●●●

قبل سقوط المدينة، بشهور، كانت القوة المشتركة للحركات المسلحة في دارفور، المتحالفة مع الجيش السوداني، أعلنت القبض على مجموعة من المرتزقة الأجانب قرب الحدود السودانية ـ الليبية.. انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يُظهر متعلقات أحد المحتجزين الأجانب، وقد كُتب في بطاقته الشخصية أنه من كولومبيا.. ومن خلال ما نشرته الصحافة الكولومبية، تبيّن أن شركة مقرها في دولة الخليج، يديرها عقيد سابق في الجيش الكولومبي، قامت بإرسال مقاتلين كولومبيين للمشاركة في الحرب الدائرة في السودان إلى جانب قوات الدعم السريع.. كذلك، تم القبض على قافلة أسلحة ومقاتلين على الحدود الليبية.. قال مصدر في القوة المشتركة للحركات المسلحة في دارفور، شارك في عملية القبض على المقاتلين الكولومبيين، إن القوة المشتركة رصدت (المرتزقة الكولومبيين في مثلث الحدود السودانية ـ الليبية ـ التشادية، في قافلة مكوّنة من خمسين عربة، بعضها محمل بالأسلحة الثقيلة وبعضها محمل بأسلحة خفيفة.. وأشار المصدر، إلى القافلة كانت تضم نحو خمسة وأربعين مقاتلًا من الأجانب الكولومبيين، وألقي القبض على حوالي أربعة وثلاثين فردًا، منهم سبعة مصابين، ورفض الكشف عن عدد القتلى، ولكنه أشار إلى فرار جزء من القافلة.. وقال المصدر أيضًا، إن القوات (ضبطت كميات كبيرة من الذخائر والأسلحة الثقيلة التابعة للقوات المسلحة الإماراتية، لا سيما عدد كبير من صواريخ كورنيت المضادة للدروع).. كما صادرت سبع عربات مصفحة وخمسة وعشرين سيارة دفع رباعي جديدة.

●●●

يقولون، إذا غابت الحقيقة، تسيدت الفوضى الساحة.. لذا، يتساءل البعض: هل مصر مُقصرة تجاه ما يجري في الفاشر؟.. والسؤال الأهم: هل تدرك مصر الخطر الداهم الذي يُهدد أمنها القومي، بعد استيلاء عصابات الدعم على كامل دارفور؟.

للإجابة على هذه الأسئلة، لابد من العودة إلى البدايات.. منذ لحظة استقلال السودان رسميًا عن مصر عام 1956.. كانت العلاقات عند أسوأ نقطة ممكنة.. تشكّلت حكومة سودانية ائتلافية كان لحزب الأمة دورًا بارزًا فيها، وتولّى وقتها عبد الله خليل رئاسة الوزراء، وكان يحمل كراهية شديدة لمصر، دفعته لارتكاب خطيئة في حقها.. التعاون مع العدو الإسرائيل.. قبيل العدوان الثلاثي على مصر بثلاثة أسابيع، جاء وفد سوداني رفيق المستوى إلى مصر للقاء الرئيس جمال عبد الناصر.. كان الوفد يضم المهدي زعيم حزب الأمة، ومحمد صالح الشنقيطي رئيس البرلمان، وعبد الله خليل رئيس الوزراء.. وبعد اللقاء مباشرة، ذهب الثلاثي إلى جنيف في مهمة تبدو دبلوماسية، لكنها كانت بترتيب من القصر الملكي البريطاني، للقاء وقد من الموساد.. وللأسف، قام الوفد السوداني بإبلاغ الإسرائيليين بكل ما تحصلوا عليه من معلومات من مصر.. وكان الثمن الذي تلقّوه كبيرًا بمقاييس ذلك الزمان، مليون ونصف المليون دولار، يحصل عليها حزب الأمة، عن طريق بيع محاصيل القطن المملوكة لزعيمه المهدي، إلى شركة بريطانية تُدعى (لويس أند بيت)، بثلاثة أضعاف ثمنه الأصلي.

كانت نقطة مؤسفة في تاريخ العلاقات المصرية ـ السودانية، وسرعان ما انتهت بعد انقلاب عسكري، بقيادة الجنرال إبراهيم عبود عام 1958.. وعلى عكس أسلافه، كان عبود قريبًا من مصر، بل ومنحها أعظم هدية في تاريخها.. اتفاق مياه النيل عام 1959.. وبموجب هذا الاتفاق الثنائي، ارتفعت حصة مصر من مياه النيل إلى 55.5 مليار متر مكعب مقابل ثمانية عشر مليارً للسودان.. ولم يكن ممكنًا لمصر أن تتمتع بالأمن المائي لعقود طويلة تالية، لولا الجنرال عبود، الذي صحّح العلاقات الثنائية.. واستمرت العلاقات عند مستواها الطبيعي لاحقًا، طوال الحقب التالية في السودان، من إسماعيل الأزهري وحتى جعفر النميري.. وصحيح، كان النميري أصلًا حليفًا للرئيس الراحل أنور السادات في تطبيعه مع الإسرائيليين، وكان يُنسق معهم عن طريق رجل الأعمال وتاجر السلاح السعودي، عدنان خاشقشجي.. وقد دشن الرئيس السادات قناة الوصل بين السودانيين والإسرائيليين، واستمرت في النمو سرًا، حتى انكشاف أمرها بعد فضيحة استخدام تل أبيب للسودان كنقطة لتهجير الفلاشا من إثيوبيا لقاء مبلغ مالي، تحصّل عليها الرئيس النميري ورئيس جهاز استخباراته، عمر محمد الطيب.

إذن كانت العلاقات المصرية ـ السودانية مستقرة حتى عام 1989، عندما قام عمر الشير وحسن الترابي بانقلابهما الشهير في السودان، وشكّلا ما يُمسى حكومة الإنقاذ.. كان حسني مبارك متردّدا في فهم ما يدور في السودان، أرسل على الفور بطرس غالي إلى الخرطوم لفهم ما يحدث، وعاد غالي برسالة إلى مصر مفادها، أنه انقلاب الإخوان المسلمين.. كان وقع الكلمة ثقيلًا على مبارك.. قبل عامين تمكّنت حركة الإخوان في مصر من دخول البرلمان عام 1987، ضمن تحالف مع حزبي العمل والأحرار، حاصلة على نسبة تقارب 17% من مقاعد البرلمان.. وكان آخر ما كان يرغب فيه حسني مبارك، على إثر تلك النتائج، هو وجود الإخوان على الطرف الآخر من الحدود الجنوبية.. لكنه استمر في التعامل وفقًا للترتيبات القديمة مع نظام عمر البشير، دون إعطاء اهتمام أكبر لمسألة الانتماء السياسي.. لكن انقلاب سوف يحدث في علاقات شطري وادي النيل عام 1995.. محاولة اغتيال الرئيس مبارك في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا.

تفاصيل العملية يذكرها زعيم حركة الإخوان في السودان، حسن الترابي، في لقائه مع أحمد منصور في برنامج (شاهد على العصر) على قناة الجزيرة.. يحكي الترابي، أنه كان هناك هاربين مصريين من جماعتي الجهاد والجماعة الإسلامية في الخرطوم، وأن الرئيس السوداني، عمر البشير، أصدر أوامره للرجل القوي، علي عثمان طه، بتدريبهم تمهيدًا لإرسالهم إلى إثيوبيا لتصفية حسني مبارك.. لكن المحاولة فشلت، وعاد بعض أفراد الخلية إلى الخرطوم، فأصدر عمر البشير أوامره بتصفيتهم، حتى لا تنكشف مؤامرته على مبارك.. يقول حسن الترابي إنه اعترض مرتين.. الأولى أثناء التخطيط للعملية، والثانية عند تصفية المنفذين الخائبين.. لكن كلاهما، الترابي والبشير، لم يعلما لمدة طويلة، أن الاستخبارات الأمريكية نقلت لنظيرتها المصرية على الفور، تفاصيل التورط السوداني في الأمر.. وكانت طامة كبرى في علاقات البلدين.

تصرف حسني مبارك على نحو يغلب عليه العقل.. ظلّت العلاقات الشعبية بين الطرفين قائمة، لكنها تعرّضت لانتكاسة شديدة على المستوى السياسي.. امتنع حسني مبارك عن لقاء أي مسئول سوداني رفيع المستوى لأربعة عشر عامًا متتالية، حين التقى بمخطط عملية تصفيته، على عثمان طه، في القاهرة عام 2009.. وهنا، أصبح السودان بالنسبة إلى مصر كمًا مهملًا، وكذلك إفريقيا بالكامل.. كانت الوفود المصرية لمؤتمرات القمة الإفريقية لا تتجاوز رئيس وزراء أو وزير خارجية.. هذا الجفاء المصري ـ السوداني، والإهمال المصري لإفريقيا، استغلته إثيوبيا لاحقًا على أكمل وجه، ابتداءً من عام 1997 بغرض تجميع باقي دول حوض النيل في مبادرة جنيف، من أجل السماح بإقامة سدود على مصب النيل، دون الإخطار المباشر لدولة المصب (مصر).. وحين تجاوزت مصر والسودان خلافاتهما، كان الوقت قد تأخر نسبيًا عام 2010.. في ذلك العام، وكما تقول تسريبات ويكليكس، طلبت مصر رسميًا من السودان توفير قاعدة جوية في مدينة كوستي جنوب الخرطوم، لاستهداف أي بناء إثيوبي محتمل لسد النهضة.. تقول التسريبات، بأن البشير وافق على الطلب المصري، لكن مصر نفسها هي التي تغيرت أحوالها الداخلية والخارجية بعد ثورة يناير 2011.

ما معنى الكلام السابق؟.. معناه، أن العلاقات بين البلدين تاريخيًا، غلب عليها التوتر الشديد.. لم ينس السودانيون ما يعتبرونه ميراثًا في التعالي المصري خلال فترة الوحدة تحت التاج البريطاني، ولم تغفر مصر بسهولة قيام حكومة حزب الأمة بالتخابر مع العدو ضدها، ولا قيام عمر البشير بمحاولة تصفية رئيس جمهوريتها.. وما يُمكن قوله بسهولة، هو أن التوتر والشك والريبة، كانوا سمت علاقات البلدين خلال نصف قرن، وأن السودان الرسمي يتحمّل جانبًا كبيرًا من ذلك.. خصوصًا خلال حقبة عمر البشير.. أما خطايا البشير داخليًا، فكانت فوق أي احتمال.. وتلك نقطة مهمة جدًا، لفهم لماذا وصل السودان لتلك المرحلة المروّعة في الفاشر؟!.

عادى عمر البشير المجتمع الدولي بأكمله، وتسّبب في تعرض بلاده لموجة من العقوبات الدولية، بل وحتى الاستهداف الأمريكي لمصانع مدنية.. وفي الوقت الذي كان العالم كله يتبرأ من أسامة بن لادن، الشهير لاحقًا في جبال أفغانستان.. كان عمر البشير يوفر له غطاء ميدانيًا.. انعزل السودان تمامًا عن العالم، فرضت عليه أطنان من العقوبات، لا بنوك ولا نقل أموال، ولا إمكانية لتحديث الجيش وشراء أسلحة.. خمسة وثلاثون عامًا من العقوبات، أدت إلى ما نشاهده الآن، من تراجع مستوى التجهيز للجيش السوداني في المعارك.. لكن الخطيئة الأكبر لم تأت بعد.. خطيئة صناعة عصابات (الدعم السريع)، وغرس وجود الإمارات في أرض السودان.. كان ذلك عام 2003، عندما بدأت التوترات بين القبائل ذات الأصول العربية والقبائل ذات الأصول الإفريقية، من الزغاوة والمساليت في إقليم دارفور.. لم يلجأ البشير للحوار.. كل ما كان يعرفه هو السحق فقط، حتى تجاه أبناء وطنه.. لكنه لم يرغب في أن يقوم الجيش السوداني بهذه المهام القذرة بمفرده.. كان لا بد من غطاء.. من يكون؟!.. سارق الجمال ورجل العصابات، الذي لا يعرف القراءة والكتابة، محمد حمدان دقلو، الشهير بـ (حميدتي)، الذي قام بتشكيل عصابات من المنتسبين للقبائل العربية، وجمعهم تحت مظلة تُدعى (الجنجويد)، وتعني (الجن راكب الجواد حاملًا جيم)، والجيم هي بندقية ألمانية.

وبدأت واحدة من أعنف موجات الإبادة في التاريخ العربي المعاصر.. أربعمائة وخمسون ألف ضحية في ثلاث سنوات، على يد عصابات الجنجويد وحميدتي.. حتى فاحت رائحة ما يجري في دارفور في العالم كله.. وتوجهت أصابع الاتهام لعمر البشير والجيش السوداني، لأن الخدعة لم تنطلي على أحد في العالم بأسره.. وسوف يدفع السودان بأكمله الثمن قاسيًا.. حاول البشير النأي بنفسه عن عصابات الجنجويد لتجنب غضب المجتمع الدولي.. قطع الرواتب التي كانت تُصرف من الخزانة السودانية للجنجويد، ثم تجاهل حميدتي وعيّن (منى أركو مناوي) مستشارًا له.. عند تلك النقطة، ثار حميدتي ضد ولي نعمته، عمر البشير.. فما الذي حدث؟.

ذلك ما تشرحه جولي فلينت تفصيلًا في ورقتها البحثية (ما بعد الجنجويد: فهم ميلشيات دارفور)، الصادرة عن معهد مسح الأسلحة الصغيرة في سويسرا.. تقول، بدأ حميدتي ثورته في أغسطس 2007، حيث انشّق بأكثر من سبعين مركبة ثقيلة مدرعة، وأسّس، بالتحالف مع مهندس كومبيوتر يُدعى أنور خاطر، الجبهة الثورية السودانية SRF.. بل إنه خدع الحكومة السودانية، عندما أعلن أنه سوف يشارك في الهجوم على معسكرات (حركة العدل والمساواة) في منطقة حسنكيته في دارفور.. وعندما أمدّته الخرطوم بالمركبات والسلاح، استولى عليها واستخدمها ضد الحكومة نفسها.. فكيف يتصرف البشير؟.. هل يقمعه؟، لا.. فبشكل شديد المذلّة، انصاعت الحكومة لتمرده، وتحقّق حلم حميدتي، ليس فقط في أن ينال كل المستحقات المالية للجنجويد بأثر رجعي.. بل إنه حمل لأول مرّة لقب عسكري، رتبة (عميد).. وتحوّل من قاطع طرق وتاجر إبل ومجرم، إلى قائد عسكري في غمضة عين.. سقطت الدولة السودانية في ذلك اليوم، للمرة الأولى، أمام عصابات الدعم السريع.. ولم تكن المرة الأخيرة أبدًا.

يعود حميدتي لتقديم خدمات للبشير في دارفور من جديد.. يذكرها تفصيلًا، الباحث السوداني، البدوي عبد القادر البدوي، في ورقته الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات في الدوحة، تحت عنوان (قوات الدعم السريع السودانية: من ميليشيا إلى قوة نظامية).. قوات الدعم السريع حققت انتصارات عسكرية لاحقًا على فصائل التمرد المناهضة للبشير في معارك عدّة.. معركة دونكي البعاشيم في 2014 ضد قوات تحرير السودان.. معركة قوز دنقو ضد حركة العدل والمساواة في جنوب دارفور 2015.. معركة فنقا في وسط دارفور، وغيرها من معارك، أمّنت للبشير هدوءً مفروضًا بالحديد والنار في دارفور.. معارك أثبتت كذلك، الكفاءة القتالية لتلك الميلشيات، لكنها ليست كفاءة المقاتل العسكري، بل كفاءة المجرمين الذين يدخلون الأرض ويحرقونها، ويرتكبون في حق سكانها أبشع جرائم السرقة والنهب.. أصبح حميدتي ضابطًا مهيبًا في السودان.. لكن طموحه لم يتوقف عند ذلك.. الامتيازات المالية العملاقة كانت هدفه الأكبر، وقد حقق الكثير جدًا منها..كيف؟.

ابن عم حميدتي، موسى هلال، وهو ناظر عرب المحاميد في شمال دارفور، الفرع الأكبر من قبيلة الرزيقات.. وكلاهما من قادة الجنجويد التي ارتكبت أعمال الإبادة في دارفور.. لكن الصلات القبلية والحربية انقلبت إلى عداء شديد، عندما اصطدم الطرفان في مرحلة توزيع غنائم الحرب، وبالأخص حول منطقة غنية بالذهب وهي جبل عامر.. وبعد صراع كلّف ألف قتيل وتشريد مائة وخمسين ألف من الجبل الواقع في دارفور.. حسم حميدتي المعركة لصالحه، واستولى على المنطقة الغنيّة بالمعدن النفيس، التي بلغت عوائدها خلال عامين فقط ـ من 2014 إلى 2016 ـ مائة وعشرون مليون دولار، ذهب القسم الأكبر منها لحميدتي وميلشياته.. فإلى أي دولة كان يتم تصدير الذهب؟.. إلى الإمارات التي وضعت قدمها في أرض السودان.

أثبت حميدتي ولاءه في محطات متنوّعة، وكوفيء ماليًا وعسكريًا.. لكن المكافأة الأعظم جاءت عام 2013، عندما تم تحويل الجنجويد، بموجب قانون رسمي، إلى ما يُعرف بـ (قوات الدعم السريع)، ويشرف عليها جهاز المخابرات السوداني وليس الجيش، الذي رفض عبر رئاسة أركانه، انخراطها في الجسد العسكري.. وكان هذا ملائمًا لعمر البشير، الذي يعلم أن طريق السلطة في السودان جيدًا ـ منذ الجنرال إبراهيم عبود في الخمسينات، إلى جعفر النميري ـ هي القوة العسكرية.. فكان يحرص على إدامة الفصل بين قوة نظامية، يعلم أنها المنافس الأوحد والمهدد الأول له (الجيش)، وقوة ميلشياوية، وهي الدعم السريع، توفر له الحماية الشخصية، وتساعده على كسب معاركه غير النظيفة.. فظهرت الازدواجية منذ عشر سنوات.. جيش رسمي للدولة، وقوات ميليشاوية اكتسبت صفة نظامية، وهي الدعم السريع، وعلى رأسها حميدتي، الذي أطلق عليه البشير لفظ (حمايتي)، بعد أن ساعده في حسم معركة داخلية ضد صلاح قوش.

وما بدأ عام 2013 كقوة من خمسة آلاف جندي، انتهى ليصل عام 2019 إلى قرابة أربعين ألف جندي، هو قوام قوات الدعم السريع.. ومن بدأ كرفيق درب وحامي للبشير وشريكًا له في حروبه في دارفور، انتهى شريكًا في الإطاحة به بعد ثورة 2019.. حمدان دقلو، الذي غسل سمعته شعبيًا عندما انحاز للمظاهرات، وبالطبع كان الانحياز للإنتفاضة الشعبية قرارًا تكتيكيًا، لإعادة تموضع ميليشياته في وقت سيولة جارفة، قد تطيح به كما أطاحت بالبشير، وليس استراتيجيًا لإعادة هندسة البنية السياسية، وإعلاء مطالب التحوّل الديمقراطي.. وما إن هدأت الموجة الاحتجاجية، حتى ظهر الوجه القبيح لقوات الدعم السريع، بعد المشاركة في مجزرة القيادة العامة وقتل مئات السودانيين.. صحيح أن الطرفين، الجيش وقوات الدعم، اتفقا في باديء الأمر على تقاسم السلطة بعد إسقاط البشير، عند تشكيل مجلس السيادة الذي ضمّ المكوّنين المدني والعسكري، بحصة ستة عسكريين وخمسة مدنيين، حيث احتفظ البرهان قائد الجيش برئاسة المجلس، وحميدتي بمنصب نائب الرئيس.. لكنه لم يكن سوى، سلام الصقور.. سلام من يستغل الهدنة الشكلية، في تعبئة قواته وحشد أحلافه الإقليمية والدولية من أجل المعركة الفاصلة، في الصراع على مستقبل السودان المتعثر..على من يحكم؟.. على (مَنْ يُخضع مَنْ)، في هيراركية ما بعد البشير؟.

وبالتدريج، انفجرت الخلافات، خصوصًا مع توقيع اتفاق جوبا، الذي ينص على دمج قوات الدعم السريع داخل الجيش السوداني والقضاء على إزدواجية القوة العسكرية.. صيغة الدمج تلك أخرجت قائد قوات الدعم لأول مرة من انضباطيته الكلامية، بتصريح يعكس حقيقة الإنقسام عام 2021، بأن الدمج سيؤدي لتفكيك البلاد.. بنفس النصّ.. التفكيك.. ثم جاءت الصيغة التي طرحتها القوات المسلحة السودانية، في نقاشاتها حول طبيعة إدماج الدعم السريع في فبراير 2023.. لتأخذ الصراع لمرحلته القصوى.. الإنتقال من حروب المكاتب والبيانات، لقتال الميادين والشوارع.. البنود المقترحة من الجيش كانت تدور حول منع التجنيد في قوات الدعم السريع، وتسريح كل من التحق بالخدمة فيها بعد إبريل 2019، ووقف انتشار قواتها إلا بموافقة الجيش السوداني، وتسليم كامل عتادها العسكري للجيش، وخضوع شركاتها واستثماراتها الكبرى مثل شركة (الجُنيد) التي تدير تجارة الذهب لرقابة وزارة المالية.

هذه بنود لم يتفق عليها بشكل نهائي بين المكونين المدني والعسكري، ولم يُحدد إطار زمني لتنفيذها.. لكن أثارت غضب الدعم السريع، الذي سيجد نفسه للمرة الأولى حال تطبيقها، رهينة الإشراف العسكري والرقابي الحكومي.. وهذه سلسلة ما إن تبدأ لن تتوقف، ويعلم حميدتي أن تمرير تلك الصيغ، سيطال في النهاية ليس فقط موقعه، بل سلامته الشخصية.. فكان الصراع محتومًا.. صراع على شبكات تحالفات محلية/ قبلية/ جهوية/ عسكرية، تحاول أن تبنى لنفسها خلال السنوات الأربع الماضية، سمعة دولية تغسل بها ماضيها، وتقدم نفسها كبديل ينفذ الإتفاق الإطاري لتقاسم السلطة.. صراع على السودان ذاته.. وهنا عند تلك النقطة، في صباح الخامس عشر من إبريل 2023، اندلعت الحرب في السودان، بين الجيش الوطني والدعم السريع.

●●●

لذلك، فإن على من يتهم مصر بأنها قصّرت في حماية أمنها القومي في السودان؟، أن يدرك أن أسباب الصراع الدائرة حاليًا في السودان، هي أسباب داخلية بالجملة.. الصراع هو خطيئة كاملة الأركان يتحملها عمر البشير ونظام حكمه.. البشير الذي قرّر بنفسه الابتعاد عن القاهرة، بل وإرسال رجال لتصفية رئيسها.. البشير الذي عادى المجتمع الدولي لأجل اللا شيء حرفيًا، واستجلب موجة هائلة من العقوبات على شعبه.. البشير الذي كان أول رئيس عربي يقوم بارتكاب إبادة في حق أهله من المنتسبين للقبائل الإفريقية.. البشير الذي صنع حميدتي على عينه، وارتكب كبيرة من الكبائر، عندما أدّى لتقسيم السلطة العسكرية في السودان.. فكيف كانت ستتدخل مصر مثلًا؟.. أبتشجيع انقلاب عسكري في السودان؟، أم بقصف السودان؟.. ما الذي كان بمقدورها أن تفعله طوال تلك الحقبة الجنونية للبشير وتأخرت عنه؟.. لا شيء سوى الانتظار من أجل زوال تلك الحقبة المريرة.. لكن عندما زالت.. كان الوضع في السودان قد تجاوز مرحلة الإصلاح للأبد!!.

من أدخل الإمارات للسودان؟.. كان أيضًا البشير، عندما سمح بنفسه بإرسال عشرة آلاف سوداني للمشاركة في ما سُمي بـ (عاصفة الحزم) في اليمن.. منذ وقتها، تعمّقت صلة حميدتي مع أبو ظبي التي دربت جنوده المرتزقة على محاربة اليمنيين، ثم أسندت إليه إتمام مشروعها في السودان، بالقضاء على الجيش السوداني نفسه في إبريل عام 2023.. وهنا، يثور سؤال تردد كثيرًا.. لماذا تدعم الإمارات عصابات الدعم السريع بهذا الشكل؟.. والإجابة هي، أن الذهب الذي تحصل عليه من أرض السودان ليس هو السبب فقط.

تاريخيًا، يسعى العدو الصهيوني لأمر واحد فقط، تقسيم السودان.. بدأ ذلك منذ ستينيات القرن الماضي، عندما التقى ليفي أشكول، بجوزيف لاجو، مؤسس حركة التمرد في جنوب السودان، والمعروفة باسم (أنيانيا 1) في نهاريا بإسرائيل.. ومنذ ذلك الوقت، بدأ دعم تل أبيب للمتمردين السودانيين بالأسلحة عبر أوغندا وكينيا.. حتى وصلنا للحظة التي وقف فيها رئيس جهاز الشاباك السابق، آفي ديختر، في قلب الجامعة العبرية عام 2008، ليقول نصًا، بأن الهدف الأساسي لتفكيك السودان، هو حصار مصر.. لماذا مصر من جديد؟.. ببساطة، لهدفين استثنائيين.. البحر والنهر.. هل شاهدت كيف أضرت اليمن بحركة التجارة الدولية، عندما حولت البحر الأحمر لمناطق غير قابلة لنقل البضائع للكيان؟.. هذا يتقاطع مع مشروع إسرائيل التاريخي.. كيف؟.

إسرائيل تمتلك سبعة أعشار من المائة فقط من البحر الأحمر عبر إيلات.. وسعت منذ الثمانينيات، لتوسيع غنيمتها من البحر، خصوصًا أنه شبه مملوك بالكامل لدول عربية، هي مصر والأردن واليمن والسعودية والسودان والصومال وجيبوتي.. كان الطرف الوحيد غير العربي، هو إثيوبيا، التي كانت تمتلك حتى عام 1991، شواطيء بطول ألف وخمسمائة كيلو متر على البحر الأحمر.. وكان 1991 موعدًا لانفصال إريتريا عن إثيوبيا، لتذهب ومعها كل سواحل البحر الأحمر، وتبقى إثيوبيا دولة حبيسة.. هنا انتصرت إسرائيل.. لماذا؟.. لأنها دعمت انفصال إريتريا، واصبح لها حليفًا على البحر، وتحديدًا في قاعدة عسكرية تُسمى (مصوع)، حيث تقول تسريبات كثيرة، إن إسرائيل تُخزن هناك مجموعة من غواصات دولفين الألمانية.. لا ترغب في الوقوف هنا.. بل عينها الأخرى على بورتسودان، المنفذ السوداني الوحيد على البحر الأحمر وبوابته للعالم الخارجي.. وصلت إلى هناك مرة واحدة فقط.. عندما سمح الرئيس السوداني، جعفر النميري، بإقامة قاعدة عسكرية سرية للموساد، تحت غطاء شركة سياحة من أجل نقل الفلاشا لإيلات عن طريق بورتسودان.. ومن وقتها، لم تنس إسرائيل المغنم الذي فقدته.. تسعى من وقتها لسودان مفكك يضمن لها / أو لحلفائها في الخليج، السيطرة على الموانيء البحرية السودانية، لتكون شريان هام في النقل البحري الخادم لها، بل ونقطة انطلاق لغزو الخاصرة العربية البحرية، والتمكن من كسر التضامن العربي البحري المفروض بحكم الجغرافيا، حال دخول مصر أي حرب مع إسرائيل.

البحر هو المغنم الأول.. أما الثاني فهو نهر النيل.. أكثر ما يؤلم تل أبيب، هو التوافق المصري ـ السوداني حول قضية المياه.. وهو ما حدث مؤخرًا في التقارب بين القاهرة والخرطوم.. وأكبر كابوس مصري، هو أن ينضم السودان لإثيوبيا، التي تنوي بالمناسبة بناء ثلاثة سدود أخرى على مجرى النهر.. وهو إن حدث، يعني سحب شرعية المليارات الخمسة وخمسين التي تحصل عليها مصر من المياه، ويُشكل تمهيدًا لتقليصها إلى النصف أو يزيد.. ولنا أن نتخيّل فقط حكومة سودانية موالية للكيان؟... أو أن تتحقق الخطة الخليجية بالوكالة، لتقسيم السودان إلى الخرطوم ودارفور وبورتسودان؟.. مصر هي الهدف بالمطلق لما يدور في السودان.. ليس منذ اليوم.. بل منذ عام 1956، عندما جنَّد العدو سياسيين سودانيين لنقل أسرار مصر الحربية إليه في جنيف قبل العدوان الثلاثي.. ومصر تدرك ذلك.. بل وتتصرف في إدارة الملف السوداني بأفضل صورة ممكنة حتى هذه اللحظة.. لا تستطيع مصر التدخل عسكريًا كما يقول البعض.. الحرب في السودان تحولت للأسف لحرب إقليمية ودولية حول جسد منهار اسمه السودان.. التخيل الساذج، بأن مصر ترسل قوات أو تٌعلن التدخل في الحرب بجيشها، سوف يُجرّم دوليًا، ويخضعها للمادة السادسة والسابعة من ميثاق مجلس الأمن، باعتباره اعتداء على دول ذات سيادة.. خصوصًا أنه لم تصدر أفعال معادية للقاهرة بشكل فج، يُمكن من خلالها تبرير التورط في حرب.. التدخل المصري المباشر في السودان كارثة، وهو ما تدركه القاهرة جيدًا.. خصوصًا وأن الكل (يلعب من تحت الترابيزة)، بالتعبير العامي.. والقاهرة لم تغب لحظة.

فلنتذكر فقط هيستريا حميدتي وهو يُهدد مصر كالأخرق، بل ويندد بدورها في دعم الجيش السوداني، ويصرخ من الألم وهو يقول، أن الطيران المجهول أتى على معسكراته.. هذه كلها أيادي نعرف جميعًا مصدرها ولا نقول أبدًا عنها.. لكنها أياد بيضاء لم تنقطع عن دعم الجيش الوطني السوداني.. لقد فقد الجيش السوداني العاصمة الخرطوم منذ بداية الحرب واستعادها قبل أشهر.. بفضل تضحيات أبناء الشعب السوداني الباسل، لكن لا شك، كان هناك في الخلفية (طيران مجهول) من دولة لا تحب سوى الخير للسودان، وبفضله توفر الغطاء للسودانيين على الأرض.. وتمكنوا من استعادة العاصمة ودحر عصابات الجنجويد إلى دارفور، قبل أن تسقط الفاشر مؤخرًا، وهي المعقل الوحيد الذي كان متبقيًا للجيش هناك.

تصرفت مصر في الملف السوداني بعقلانية شديدة للغاية، ولم تحكمها نوازع صبيانية كما تحكم بعض العربان.. بل نحت خلافاتها السياسية المحلية والإقليمية مع تيارات الإسلام السياسي، ودعمت الجيش السوداني، ولم تنسق وراء الرغبات المحمومة بالتخلي عنه، لأنه يضم فلول عمر البشير وأنصار الحركة الإسلامية.. مصر انحيازها واضح لا لبس فيه، دعم الجيوش الوطنية ضد العصابات، ودعم الدولةالسودانية في مواجهة الفوضى.. وكما لم تقبل أن يكون تحالفاتها مع الخليج مقدمة لتوريطها في حرب اليمن، لم تقبل كذلك أن يعميها المال القادم من هناك، عن معرفة مصلحتها القومية في السودان بالوقوف لجانب الجيش.. وتصرفت في تلك الأزمة، كدولة بحق.. والآن تتحرك كما هو مطلوب منها، دون صخب، دعمًا للجيش السوداني.. ليس من المعقول تحميل مصر كل مصائب الكون، ولا مطالبتها بما هو فوق استطاعتها وما يضر بمصالحها بطريقة صبيانية.. الأزمة السودانية محلية الطابع، جرى استثمارها للأسف من أعداء السودان في الخليج وتل أبيب وواشنطن... ومصر تقف وحيدة بين هؤلاء ـ كما هو الحال في غزة بشأن التهجير ـ داعمة للسودان، فإياك وإياك أن تبخس مصر حقها، أو تصورها كشريك صامت أو متواطيء فيما يجري لأهالينا في السودان.

الغريب هنا، أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر هدأ نشاطها طوال الشهر الماضي مع احداث الفاشر؟، مع أن التنظيم الدولي للإخوان مشغول للغاية بأحداث السودان، لأنهم ومنذ ثورة السودان، التي أسقطت حكم الإخوان، وهم يسعون إلى استرداد السلطة هناك بأي ثمن.. فالسودان دجاجة تبيض ذهبًا خالصًا، ليس لأهلها نصيب منه مطلقا، لأن عوائد هذا الذهب كانت تذهب إلى جيوب الجماعة، عمر البشير وعشيرته.. توقفت المشروعات الهائلة، التي خُطط لها منذ بدأت الجمهورية السودانية، توقفت لصالح قوى عظمى.. فلو أن السودان زرع أرضه الخصبة قمحًا، لأصبحت سلة قمح، تكفي الشرق الأوسط كله بهذه االسلعة الحيوية، وبأسعار عادلة، اقل من السعر العالمي، وكذلك مصر كذلك.

لكن هذا ليس في مصلحة القوى العظمى.. ذلك من أسباب بدء (حروب الماء).. سنة ١٩٧٤ كان المشير محمد عبد الغني الجمسي، رحمه الله، القائد العام للجبهات العربية، في لقاء بالولايات المتحدة، والتقي وزير الدفاع الأمريكي في ذلك الحين، جيمس تشيلزنجر.. وزير الدفاع الأمريكي قال له في بساطة مباشرة، (لن نسمح لأحد أن يكتفي ذاتيًا من القمح، لن نسمح بظهور قوة جديدة ـ مثل الاتحاد السوفييتي السابق ـ أكرر لك.. لن نسمح بوجود سلة قمح أخرى في العالم)... ويستطرد الجمسي في مذكراته، (القمح أهم من الذهب والبترول.. يمكنك شراء الذهب في أي وقت، وتوجد ناقلات أوكرانية وغيرها تجوب المحيطات وتعرض البترول على من يشتري، لكن القمح.. لا).. ورغم أن تاريخ السودان منذ الانفصال عن مصر، شهد انقلابات متعددة، لكن أخطرها، كان الانقلاب الذي قام به عبد الرحمن سوار الذهب، عام ١٩٨٥.. استُبعد من الجيش عام ١٩٧٢ لأسباب أيديولوجية، وأرسلوه إلى قطر.. هناك اشتغل مستشارًا عسكريًا، وصار بمثابة قائد للجيش والشرطة معًا.

هناك من يرى أن سوار الذهب، لم يكن إخوانيًا، لكن كان مؤمنًا بالديموقراطية، التي ترى الإخوان فصيلًا وطنيًا.. وخلال فترة وجوده في قطر، ارتمى سوار الذهب في أحضان المنظمات الإسلامية، وراح يحاضر ويتحدث في مؤتمراتهم.. وهنا، يقرر الخبراء، ان هذه بدايته الحقيقية، كأخواني أيديولوجي.. ثم عاد سوار الذهب، إلى الخرطوم، كوزير دفاع مٌعين، عام ١٩٨٥، ليقود بعدها بفترة بسيطة للغاية، انقلابًا عسكريًا، ضد جعفر النميري، رئيس السودان وقتها.. المؤشر الخطير على تحوله الايديولجي، كان أن سوار الذهب، قبل ست سنوات فحسب، أنقذ جعفر النميري نفسه، من انقلاب عسكري، قام به عسكري آخر، لكن پأيديولوجية شيوعية، هو الرائدهاشم العطا، الذي كاد انقلابه ينجح.. وحاصر مدينة الأُبيض في كردفان، لكن سوار الذهب كان على رأس الحامية العسكرية فيها، ورفض تسليمها، ودعم النميري.

لكن مع عودته من قطر، معقل الإخوان منذ ستينيات القرن الماضي، قرر الانقلاب بدوره على النميري، ونجح.. وبقى سوار الذهب في الحكم لعام واحد، ثم سلَّم السلطة بالفعل الى الرئيس الذي انتخبه الشعب، أحمد الميرغني، وتفرغ هو بعدها للدعوة الإسلامية في السودان.. ولا نعرف، كيف تفرغ للدعوة الإسلامية في بلد معظم أهلها مسلمين بالفعل.. لكن الحقيقة لم تكن كذلك.. الحقيقة انه تفرغ للدعوة (الإخوانية).. صار يدعم فكر الإخوان على الأرض، في ثوب الداعية.. المهم، ومع قدوم أحمد الميرغني، تنفس أهل السودان الصُعداء، إذ أن الميرغني كان رجلًا وطنيًا نظيفًا، يدل اختياره على وعي أهل السودان، في ذلك الوقت، ووجوده قد يُحدث فارقًا حيويًا في نهضة السودان.. لكن سوار الذهب قبل رحيله، دعم ولمع بشتى الطرق الصادق المهدي، كرئيس وزراء، وتم انتخابه، وفاز بالمنصب بالفعل.. وهذه كانت بداية النهاية.. نهاية حفلة الديموقراطية القصيرة، التي عاشها السودان.. فالصادق المهدي، جاء من حزب الأمة القومي، حزب إسلام سياسي بدوره، يقدم أيديولجية أنيقة براقة، لكنها كاذبة خادعة.. الديموقراطية الإسلامية، صورة مالهاش وجود بين صور الديموقراطية، نظرًا لأن الإسلام السياسي ينظر لرأي الأغلبية باستخفاف، ويميل لمبدأ الشورى.

كان المهدي قد عُين رئيسًا للوزراء من قبل، لمدة عام واحد، عام 1966، واستُبعد بعده.. ومع قدوم الصادق للمرة الثانية، وانتشار أفكار الإسلام السياسي، صارت الفرصة سانحة، للأخ عمر البشير بدوره، حتى يقوم بانقلاب عسكري، وينجح.. ولكن هذه المرة يبرز على الساحة حزب البشير، حزب المؤتمر الوطني.. إسلام سياسي صرف.. ووضع البشير عمامة الدروشة الاخوانية على رأس السودان.. ومكَّنهم من المناصب وتسللوا للجيش أكثر وأكثر، تماما مثلما تمنى محمد مرسي أن يفعل في مصر.. وكالعادة مع حكم الإخوان، في أي مكان، راح الإخواني يزداد ثراء، والسوداني يزداد فقرًا.. ثم راح السودان ينغلق على نفسه، ويئن، ويتمزق وينقسم.. وكان لابد من ظهور حميدتي وميليشياته، ومحاولته إحباط محاولة النجاة، وكذلك لصالح قوى عظمى.. قوى تهدف لتعطيش السودان بسد إثيوبي، يدعمه أهل السودان أنفسهم!!.. تمامًا مثلما فعلت القوى العظمى في كثير من شعب العراق الطيب، حين اقنعته بأن الغزو الامريكي خير ورخاء، وانتهى الأمر بالولايات المتحدة، تنهب ذهب وبترول العراق، وتمول سدود تركيا، من مال العراق، لتعطيش العراق!!.

نفس ما ذكره الراحل جمال حمدان، الذي أشار في موسوعته، (شخصية مصر) الى المفهوم التالي: (العداء المصطنع المُحرض على استخدام المياه سلاحًا سياسيًا من دول المنبع ضد مصر وضد انفسهم، مما قد يعطش الجميع أو يشعل حربًا.. أتى من غرباء، دخلاء على حوض النهر).. حرب العقول لا تنتهي أبدًا.. هناك سودانيون يعتبرون سوار الذهب والمهدي والبشير أبطال!!.. قوى تسعى لكي لا ينهض السودان أبدًا.. لأن نهضة السودان ووقوفه على قدميه كدولة، تتطور وتتقدم، يؤدي إلى نتائج تاريخية خطيرة.. والموضوع بدأ من قبل الميلاد.. فالحقيقة أن العلاقة بين مصر والسودان بدأت من هناك، وستستمر.

حفظ الله مصر والسودان من كيد الكائدين.. آمين.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق