أنقاض تتنفس بارودًا.. غزة تحارب المستحيل لاستعادة الرفات من "قبر مفتوح"

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تواجه الأطقم العاملة في الميدان بقطاع غزة، بما في ذلك فرق الدفاع المدني المحلية والهيئات الأممية، عقبات هائلة في عمليات تحديد مكان وإخراج رفات الضحايا والمحتجزين بمن فيهم الرهائن الذين قضوا أثناء الاحتجاز أو العمليات. 

تعود هذه الصعوبات إلى الدمار الشامل الذي محا ملامح المناطق الحضرية، وإلى تراكم عشرات الملايين من الأطنان من المخلفات الإنشائية المشبعة بالذخائر التي لم تنفجر. يلخص الوضع الراهن ثلاثة عوامل رئيسية هي فقدان النقاط المرجعية الجغرافية، الانتشار المفرط للتلوث بالمتفجرات، واستنزاف الإمكانيات المادية والبشرية للفرق، ما يؤدي إلى تباطؤ وتجزئة استجابة الطب الشرعي.

 

فقدان القدرة على الاستدلال المكاني

أحياء محيت بالكامل.. البيانات الرسمية تشير إلى تضرر أو تدمير أكثر من نصف مباني القطاع، ما جعل مهمة التعرف على الموقع شبه مستحيلة في عدد كبير من الأحياء، وتحليل صور الأقمار الصناعية الأممي (يونوسات) يوضح أن نسبة المباني المتضررة وصلت إلى حوالي 55% بحلول نهاية خريف 2024، وهذا أدى إلى زوال شامل للمرجعيات الجغرافية الأساسية في الميدان.

حجم الحطام.. تتجاوز تقديرات حجم الحطام 39 مليون طن، وهو ما يزيد من تعقيد الوصول إلى المخابئ والأنفاق والمساحات المدفونة التي يُحتمل أن تحوي الرفات.

تعتمد فرق الإنقاذ حاليًا على مسح كل منطقة بشكل كامل، بعد اختفاء جميع العلامات الإرشادية التقليدية التي كانت تعتمد عليها العائلات كزوايا المساجد أو المدارس، ما يفرض بدء البحث "من نقطة الصفر" في كل مربع.

 

التهديد الكامن في المخلفات: التلوث الجسيم بالمتفجرات

خطر الانفجار الدائم.. تحذر جهات متخصصة كـ (UNMAS) والتحالف العالمي للألغام من أن كثافة الذخائر التي لم تنفجر داخل غزة، وتلوث المخلفات الحربية، يُعتبر "هائلًا"، فالحطام نفسه قد يحتوي على بقايا شظايا ومواد متفجرة حساسة، ما يحوّل كل محاولة للحفر أو إزالة الكتل الخرسانية إلى مخاطرة كبرى تستدعي تدخلًا مسبقًا من فرق نزع المتفجرات المتخصصة.

توصي اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) بأن الإجراء الفعال لإدارة الرفات في مناطق النزاع يتطلب أولًا تأمين الموقع وتوثيقه قبل الانتقال إلى الإخراج المنهجي، وهو تسلسل يتعذر تطبيقه في ظل وجود تهديدات متفجرة مستمرة و"مفخخات ثانوية".

يجب أن يسبق أي تحريك للمعدات الثقيلة مسح شامل للمتفجرات، وهي عملية قد تستغرق أيامًا في مبنى واحد، مما يفرض تباطؤًا إجباريًا على عمليات الاسترداد ويعرقل إعادة السكان لمواطنهم.

 

ملف المحتجزين والضحايا: طول أمد استعادة الرفات

البحث في مواقع مطمورة.. أعلنت إسرائيل مرارًا منذ منتصف 2024 عن استعادة رفات محتجزين من أنفاق أو مواقع مدنية مدمرة، وتؤكد التصريحات المتتابعة أن مهمة العثور على باقي الرفات "ستستغرق زمنًا طويلًا" بسبب ضخامة الأنقاض وتعقيد البحث الميداني.

العقبة لوجستية لا سياسية.. حتى في حال توافر تفاهمات لتبادل الرفات، لم يعد تحديد المواقع الدقيقة للاحتجاز أو الدفن الأولي ممكنًا في الأحياء التي سويت بالأرض، ما يستوجب الاعتماد على تحليل صور الأقمار الصناعية القديمة، والإفادات المتقطعة، وتقنيات الاستشعار تحت الركام.

التحدي الإنساني والأخلاقي لاستعادة الرفات لا خلاف عليه، لكن الصراع الحقيقي اليوم هو مع عامل الزمن والحجم الهائل للكتلة الخرسانية الملوثة.

استنزاف قدرات الإغاثة.. معدات محدودة وبنية تحتية طبية منهارة

نقص المعدات الثقيلة.. تشير التقارير الميدانية إلى استنزاف هائل في قدرات الدفاع المدني الفلسطيني، نتيجة النقص الحاد في المعدات الثقيلة مثل الحفارات والرافعات وأجهزة القص، إلى جانب القيود المفروضة على دخولها والوقود اللازم لتشغيلها، وهذه المعوقات تُبقي عمليات الانتشال محدودة وبطيئة.

الطب الشرعي المعطل.. أدى انهيار القطاع الصحي إلى تقييد وظائف الطب الشرعي من نقص في ثلاجات حفظ الجثث وسلاسل التبريد، بالإضافة إلى تعطل مختبرات تحليل الحمض النووي (DNA)، وصعوبات في التوثيق الرسمي.

بعد الانتشال، تتعرقل إجراءات تحديد الهوية ومنها التشريح وتحليل الحمض النووي وتوثيق المتعلقات، مما يفاقم معاناة العائلات ويؤخر أي ترتيبات لتبادل الرفات أو تسليمها لذويهم.

 

المسار الإلزامي لإدارة الأنقاض الآمنة.. عملية مقاسة بالسنوات

تؤكد الخبرات الأممية المستخلصة من مناطق نزاع سابقة -مثل الموصل- أن العملية الآمنة تبدأ حتمًا بالمسح الشامل للمتفجرات، يلي ذلك "فرز" الأنقاض في مواقع مخصصة لاستخلاص أي أدلة أو رفات، ثم النقل التدريجي إلى مطامر مراقبة، هذا التسلسل، عند التعامل مع عشرات الملايين من الأطنان، يُقاس زمن تنفيذه بالسنوات وليس بالأشهر.

بالتوازي مع إزالة المتفجرات، تحتاج عمليات الاستجابة الجنائزية إلى وحدات تبريد متنقلة ومختبرات حمض نووي ميدانية وفرق أنثروبولوجيا جنائية وسجل موحد للمفقودين يربط الإحداثيات بالعائلات وعينات الحمض النووي، وهي توصيات اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

 

المقترحات العاجلة.. تعزيز الاستجابة الإنسانية والفنية

للتغلب على التعقيدات الراهنة، يمكن للأطراف المعنية، من خلال مظلة الأمم المتحدة، اعتماد الإجراءات التالية:

تفعيل ممرات إنسانية جنائزية.. الاتفاق على هدنة موضعية ومحددة الأهداف لإجراء عمليات انتشال في مواقع معينة، مع إعطاء الأولوية القصوى لإزالة المتفجرات قبل دخول فرق البحث.

تمكين الإمكانيات المحلية.. إدخال فوري للمعدات الثقيلة آلات الرفع والقص، ووحدات التبريد المتنقلة، وأجهزة الكشف تحت الأنقاض، بالإضافة إلى تدريب الفرق المحلية على بروتوكولات إدارة الرفات وحفظ الأدلة، مما يسرع عملية التعرف والاسترداد.

كذلك الاستفادة من بيانات الأقمار الصناعية.. الاعتماد على التحليلات التراكمية لصور الأقمار الصناعية قبل/أثناء/بعد القصف لتحديد "المربعات ذات الأولوية" التي يحتمل وجود فراغات تحتية أو أنفاق فيها، لتوجيه جهود الحفر بشكل دقيق.

 

فجوة التنفيذ.. حدود الإرادة السياسية أمام التحدي التقني

هناك تأخر حتمي فحتى لو توصلت الأطراف إلى تفاهمات سياسية فورية، تؤكد التقارير الدولية أن الفترة الزمنية المطلوبة لاستعادة الرفات ترتبط بشكل حتمي بمدى إنجاز عملية إزالة الركام وتأمين المواقع، وهي عملية بطيئة ومطولة. 

هذا ما أكدت عليه تقارير صحفية دولية مطلع أكتوبر 2025 بأن استرداد رفات المحتجزين سيستغرق وقتًا نتيجة الدمار الشامل.

تشدد الهيئات الأممية على أن كرامة المتوفين وحق عائلاتهم في معرفة المصير واستلام الرفات هو التزام قانوني وأخلاقي مطلق، وأن تهيئة بيئة آمنة للإخراج هي شرط أساسي يسبق أي ترتيبات سياسية لتبادل الرفات.

 

تحدي إعادة بناء الخريطة فوق الأنقاض

إن التحول في المعالم الجغرافية لقطاع غزة هو حقيقة ميدانية موثقة ببيانات الأقمار الصناعية، إن تضافر عوامل مثل مسح الخرائط، والتلوث المتفجر، وتشتت الإمكانيات المؤسسية يجعل من عملية انتشال الرفات مسارًا تقنيًا مرهقًا لا يمكن اختزاله في تفاهم سياسي عابر.

الطريق الوحيد المتاح هو المسار المهني المدروس، والذي يبدأ بنزع منهجي للمتفجرات، إزالة آمنة للركام، تفعيل للطب الشرعي، واستثمار في الأدلة سواء الجغرافية أوالتحليلية لرسم "خريطة جديدة" فوق مدينة تحولت إلى طبقات من الخرسانة.

دون هذه الخطوات، ستبقى القاعدة كما وردت في التقارير الدولية، إعادة الرفات ستستغرق وقتًا، ليس لغياب الإرادة، بل لغياب معالم الموقع نفسه.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق