عن حسنى سليمان وشرقيات

عن حسنى سليمان وشرقيات
عن
      حسنى
      سليمان
      وشرقيات

فى ظل كثرة الغيابات فى الحياة الثقافية أشعر أحيانًا بأن زمنًا بكامله يختفى، وأن الوحشة تحتل مساحات جديدة داخل أرواحنا، لم أتمكن مثلًا فى الأسابيع الماضية من الكتابة عن الكبيرين صنع الله إبراهيم ورءوف مسعد وغيرهما، بعيدًا عن قيمتهما الأدبية الناصعة، يوجد بيننا ما يستحق الكتابة، ولكن أشعر مع كل رحيل أننى أقف فى الخلاء، أتأمل زمنًا بكامله يتوارى، وفى الوقت نفسه أجد نفسى وسط ضوضاء وقضايا ومزايدات وبطولات وتربيطات تشبه الحياة، لكنها ليست كذلك. 

هزنى رحيل الأستاذ حسنى سليمان كما هز من اقتربوا منه، وهزنى أكثر أن خبر رحيله شاع بعد ستة أشهر من موته، صحيح هو الذى اختار الابتعاد عن الحياة الثقافية منذ ٢٠١٧، وهذا قرار شخصى من المؤكد أنه يملك مبرراته. قبل هذا التاريخ أيضًا كان ينسحب تدريجيًا؛ انتقل الى الإقامة فى بنها، ويأتى فى الصباح الباكر بسيارته البيجو الـ٥٠٤ وينصرف مبكرًا، يجلس فى مكتبه بشارع هدى شعراوى فى مواعيد لا تتلاءم مع إيقاع المبدعين والمترجمين. 

وأزعم أننى من أوائل الذين تعرفوا عليه مطلع التسعينيات قبل اختيار المكان واسم دار النشر «شرقيات»، كان عائدًا من السويد على ما أذكر، وكان يمتلك مكتبة صغيرة هناك، وقرر أن ينقل نشاطه إلى مصر. تعرفت عليه أول مرة فى منزل الدكتورة سامية محرز والمستشرق الفرنسى ريشار جاكمون، فى حضور صنع الله إبراهيم والسيدة حرمه، شخص هادئ، مستمع جيد، يملك ابتسامة طفولية صافية، ملامح مريحة مع نظارة كلاسيكية، وملابس بسيطة أنيقة، كان يحلم بدار نشر على غرار الدور الأوروبية وقوانينها، وأعتقد أنه نجح الى حد كبير فى تحقيق حلمه، وبدأ رحلة البحث عن مقر، ولم تكن وسط البلد من أولوياته. 

ومرة التقينا على مقهى زهرة البستان، وكان على ناصية الشارع من جهة هدى شعراوى كشك سجائر يملكه عم خليل، رحمة الله عليه، صديق معظم المثقفين الذين يشترون منه بالأجل، وكان يعمل أيضًا سمسارًا للشقق فى المنطقة، وقال إن عنده شقة فى ٥ شارع محمد صدقى، أعجبته وصارت دار شرقيات. مثل أى ناشر كان يريد التعرف على نجوم الكتابة فى هذا الزمان ليبدأ مشروعه بأسماء كبيرة، تعرف عن طريقى على الأساتذة خيرى شلبى وإبراهيم أصلان ومحمود الوردانى ومحمد عفيفى مطر وحلمى سالم وحسن طلب وغيرهم، وتعرف فى سياقات أخرى على إدوار الخراط وأمينة رشيد وسيد البحراوى ومنتصر القفاش ومى التلمسانى ونورا أمين وعشرات من كل الأجيال المختلفة. 

أصدر فى البداية «وردية ليل» لإبراهيم أصلان و«وكالة عطية» لخيرى شلبى و«أطلال النهار» ليوسف القعيد، و«أمواج الليالى» و«يقين العطش» لإدوار الخراط، كنا لأول مرة نجد ناشرًا يدفع مع توقيع العقد مبلغًا للمؤلف، ولا توجد شروط مجحفة عليه، مثل تقاسم الجوائز كما يحدث الآن. 

لجأ إلى المعلم الكبير محيى الدين اللباد لصياغة الرؤية البصرية لكتبه، كان يقرأ الأعمال المقدمة ويناقش أصحابها بجدية ومحبة، وإذا كان فى حاجة إلى رأى آخر يذهب إلى أحد أصدقائه، مثل منتصر القفاش. اتفق مع اللباد على اختراع قطع مختلف لسلسلة شعر كانت ديوانى الثانى «مطر خفيف فى الخارج»، إلى جوار ثلاثة دواوين لعفيفى مطر وحلمى سالم وحسن طلب أولها، أصدرها دفعة واحدة. 

وأذكر فى هذا السياق جلسات فى غاية العذوبة معه ومع الأستاذ محيى حول قصائد الديوان، وكانت الدواوين الأربعة مختلفة تمامًا عن السائد، «هارد كفر» وصورة الشاعر فى بطن الغلاف الثالث. أذكر أن أحمد فؤاد نجم أعجب بتصميم الديوان وقال إنه يشبه «علبة الملبن»، وكنت حين أذهب لحسنى للحصول على نسخ أقول له «عايز خمس علب ملبن»، وحين نتهاتف يقول لى أنا «شايل لك علبتين». 

قبل «شرقيات» كان النشر الخاص لا يهتم كثيرًا بالشكل، وغالبًا يتم دون عقود، وربما يسهم المؤلف فى التكاليف، وكانت بعض سلاسل وزارة الثقافة، مثل مختارات فصول الثقافة وروايات الهلال، فى أحسن حال، ولكنها كانت تحجم عن نشر الأعمال التى تحتوى على سياسة أو دين أو جنس. نجاح «شرقيات» دفع كثيرين إلى دخول سوق نشر الأدب بشكل احترافى. 

شخصية حسنى سليمان الطيبة الودودة لم تصمد كثيرًا أمام التحولات العنيفة فى الحياة الثقافية وصناعة الكتاب، لم يكن اجتماعيًا، ويتعامل بجدية مفرطة مع كل التفاصيل، ولم يستوعب الدعابة حتى لو كان بين أصدقائه، فمثلًا مرة ذهبت بصحبة الأستاذ إبراهيم أصلان لزيارته فى الدار، كنا فى أغسطس، وكان الجو شديد الحرارة، خرجنا ثلاثتنا إلى البلكونة عندما استشعرنا نسمة هواء، طلب أصلان ماء، فجاء له بكوب ماء ساخن، لأن الثلاجة فى حاجة إلى تصليح، اقترح صاحب «مالك الحزين» بطريقته المحببة الجادة أن يأتى بـ«زير» ويضعه فى البلكونة، وحدد له المكان الذى يوضع فيه، ومن أين يشتريه، وحسنى يناقشه بجدية مفرطة، إلى أن انفجر أصلان من الضحك وأنا معه بالطبع، ولكنه فى النهاية ابتسم حين قال له وهو يضحك ضحكته الشهيرة «يا راجل هو أنا ما ينفعشى أهزر معاك؟!».. الله يرحم الجميع.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق أحمد حمودة: بيراميدز يحتاج وقتًا طويلًا ليصل لمكانة الأهلي والزمالك
التالى طقس معتدل نهارًا ولطيف ليلًا في سوهاج اليوم الإثنين 27 أكتوبر 2025