في مثل هذا اليوم، ولد العالم الأمريكي جورج بيدل (George Wells Beadle)، أحد أبرز مؤسسي علم الوراثة الحديث، والرجل الذي ساهم في كشف العلاقة الجوهرية بين الجينات والإنزيمات، وهو الاكتشاف الذي غير فهم الإنسان للوراثة والحياة على المستوى الجزيئي، وجعل منه أحد أعمدة علم الأحياء في القرن العشرين، حصل بيدل على جائزة نوبل في الطب عام 1958، تقديرًا لاكتشافه الأساس الجيني للعمليات الحيوية في الكائنات الحية.
البدايات والطريق إلى العلم
ولد جورج بيدل في 22 أكتوبر عام 1903 في ولاية نبراسكا الأمريكية، في أسرة تعمل بالزراعة منذ صغره، أبدى اهتمامًا فطريًا بالنباتات والطبيعة، وكان يقضي ساعات طويلة في الحقول يراقب نمو المحاصيل وتغير ألوانها وأشكالها، ذلك الفضول الطفولي تحول لاحقًا إلى شغف علمي، فاختار دراسة الزراعة وعلم النبات في جامعة نبراسكا، حيث تخرج بتفوق عام 1926.
تابع دراسته العليا في جامعة كورنيل، وهناك تأثر بأستاذه الشهير إدوارد إيست، الذي فتح أمامه أبواب البحث في علم الوراثة النباتية، وهو المجال الذي كان في بداياته آنذاك، بعد اكتشاف قوانين مندل كانت تلك المرحلة نقطة التحول التي جعلت بيدل يرى في الجين المفتاح الحقيقي لفهم الحياة.
التجارب الكبرى واكتشاف العلاقة بين الجينات والإنزيمات
اللحظة الفارقة في حياة بيدل العلمية جاءت عندما بدأ أبحاثه في جامعة ستانفورد بالتعاون مع زميله إدوارد تاتوم (Edward Tatum)، حيث استخدما فطرًا بسيطًا يُعرف باسم نيوروسبورا كراسا كنموذج لدراسة الوراثة، من خلال تجارب دقيقة، توصلا إلى نتيجة مذهلة: أن كل جين في الخلية مسؤول عن إنتاج إنزيم محدد، أي أن الجينات هي التي تتحكم في التفاعلات الكيميائية داخل الكائنات الحية.
هذا الاكتشاف، الذي صيغ في معادلة بسيطة “جين واحد = إنزيم واحد”، كان بمثابة ثورة علمية حقيقية، فقد فتح الباب أمام ظهور علم جديد يعرف اليوم باسم البيولوجيا الجزيئية، ومهد الطريق لفهم الأمراض الوراثية على مستوى الجين، بل وأسس لعلوم الهندسة الوراثية والحمض النووي.
نوبل الطب 1958.. اعتراف عالمي
في عام 1958، كرم العالم كله إنجاز بيدل بمنحه جائزة نوبل في الطب مناصفة مع زميليه إدوارد تاتوم وجوشوا ليدر برغ، الذين أسهموا جميعًا في وضع الأساس العلمي لما نعرفه اليوم عن الجينات ووظائفها، كان ذلك تتويجًا لمشوار علمي امتد لعقود من العمل الدؤوب في المختبرات بين النباتات والفطريات، بحثًا عن أسرار الوراثة.
القيادة العلمية والإرث الإنساني
لم يكن جورج بيدل مجرد باحث في المختبر، بل كان أيضًا قائدًا أكاديميًا بارزًا. شغل منصب رئيس جامعة شيكاغو بين عامي 1961 و1968، حيث عمل على تطوير المناهج العلمية ودعم الأبحاث في مجالات الوراثة والبيولوجيا، وكان معروفا بتواضعه الشديد واهتمامه بتشجيع الباحثين الشباب على التفكير الحر والتجريب.
كما كان يرى أن العلم يجب أن يخدم الإنسان، فكان يقول دائمًا: “الوراثة ليست مجرد معادلات جافة، بل هي قصة الحياة نفسها.”
توفي جورج بيدل عام 1989 عن عمر ناهز 85 عامًا، تاركًا خلفه إرثًا علميًا لا يقدر بثمن، فكل دراسة حديثة في الجينات، وكل تطور في الطب الوراثي، وكل بحث عن علاج لأمراض مزمنة، يحمل بصمته بوضوح.
لقد كان ميلاد جورج بيدل بداية رحلة غيرت مسار علم الأحياء، وربطت بين الوراثة والكيمياء والحياة في معادلة واحدة، لا تزال تشكّل أساس فهمنا للكائن الحي حتى اليوم.
وفي ذكرى ميلاده، يبقى بيدل رمزًا للعقل الذي استطاع أن يرى في الكائنات الدقيقة أسرارًا عظيمة، وأن يحول علم الوراثة من علم غامض إلى علم يقود ثورة الطب الحديث.
0 تعليق