يتكرر المشهد عينه مع كلّ ليلة رأس سنة في لبنان. تتحوّل السماء من مساحة للألعاب النارية والأمنيات الجديدة إلى مسرح مفتوح لإطلاق الرصاص العشوائي. أصوات الطلقات تختلط بالعدّ التنازلي، وكأنّ الرصاص بات جزءاً طبيعياً من طقوس الاحتفال. إلا أنّ هذا المشهد، الذي يراه البعض تعبيراً عن الفرح أو القوة، يخفي خلفه واقعاً قاتماً وخطِراً عنوانه العريض الرصاص الطائش، إنما يحمل في طيّاته واقعاً يهدّد الأرواح ويحوّل لحظة فرح إلى مأساة.
الرصاصة التي تُطلق في الهواء لا تختفي ولا تتبخّر، بل تعود إلى الأرض بسرعة وقدرة اختراق قاتلة. في كل عام، تسجّل إصابات في صفوف مدنيين، أطفال ونساء وكبار في السن، داخل منازلهم أو في الشوارع، فقط لأنّ أحدهم قرّر أن يحتفل بإطلاق النار. أحياناً تكون الإصابة مميتة، وأحياناً تترك عاهة دائمة، وفي الحالتين تكون النتيجة واحدة: عائلة مكلومة، وندم لا يعيد الزمن إلى الوراء.
ورغم التكرار السنوي لهذه الحوادث، لا يزال التعاطي مع الرصاص الطائش يتراوح بين الاستنكار العابر والتبرير الاجتماعي.
يقول مطلقو النار إنّها عادة، أو فرحة لحظة، أو طلقة واحدة لا تؤذي، لكن الوقائع تثبت العكس. فطلقة واحدة كافية لإنهاء حياة إنسان، وكسر استقرار عائلة بأكملها. هنا تكمن خطورة التطبيع مع الجريمة، حين يتحوّل الفعل الخطِر إلى سلوك مقبول أو مسكوت عنه.
وفي سياق الاستعدادات لاحتفالات رأس السنة، جاءت حملة "طايشة بس بتصيب" التي أطلقتها قوى الأمن الداخلي لتضع الإصبع على الجرح. شعارها المباشر يختصر الحقيقة المؤلمة: الرصاصة قد تكون عشوائية، لكنها حتماً ستُصيب. الحملة لا تعتمد الخطاب الوعظي التقليدي، بل تخاطب الناس بلغتهم اليومية، وهي محاولة لكسر ثقافة الاستهتار بالحياة، ولإعادة تعريف الفرح بعيداً عن العنف والسلاح.
أهمية هذه الحملة أنّها تنقل المسؤولية من الدولة وحدها إلى الفرد أيضاً. فكل من يضغط على الزناد شريك محتمل في جريمة، حتى لو لم يقصد القتل. فالاحتفال لا يبرّر تعريض الآخرين للخطر، والفرح الحقيقي لا يقوم على الخوف والدم. الرسالة واضحة: من يطلق النار لا يحتفل، بل يغامر بحياة الناس.
لكن، ورغم أهميتها، تبقى الحملات التوعوية غير كافية إذا لم تترافق مع تطبيق صارم للقانون. ضعف المحاسبة، وتراخي الإجراءات، وانتشار السلاح، عوامل تجعل من الرصاص الطائش جريمة متكرّرة بلا رادع. المطلوب إجراءات واضحة وحازمة، من ملاحقة قانونية فعلية للمخالفين، إلى ضبط السلاح، إلى تفعيل دور البلديات والمجتمع المدني في التوعية والمساءلة.
ليلة رأس السنة يفترض أن تكون مساحة للأمل وبداية جديدة. لا معنى للاحتفال إذا كان ثمنه دم بريء أو رعب عائلة تختبئ داخل منزلها خوفاً من رصاصة ساقطة من السماء. ربما آن الأوان ليختار اللبنانيون شكلاً مختلفاً للفرح، فرحاً يحمي الحياة بدل أن يهدّدها.
فالطلقة قد تكون “طايشة”، لكن إصابتها مؤكدة… وعندها، لا يعود للاحتفال أي معنى.









0 تعليق