رعاية في البيت لا في المستشفى: هل يَفتح لبنان باب "الاستشفاء المنزلي"؟

لبنان24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
في بلد يرزح تحت ضغط الفواتير الاستشفائية الخيالية وأزمة المستشفيات والكوادر الطبية، يطفو على سطح النقاش الصحي في لبنان ملف قد يشكّل فارقاً حقيقياً للمرضى وعائلاتهم: تنظيم خدمة الرعاية الصحية المنزلية أو "الاستشفاء المنزلي".

Advertisement

اقتراح القانون الذي تقدّم به عضو كتلة "اللقاء الديمقراطي" النائب بلال عبدالله، وناقشته لجنة الصحة النيابية بحضور وزير الصحة والضمان والنقابات، لا يتناول تفصيلاً تقنياً فحسب، بل يطرح رؤية مختلفة لكيفية تلقي المريض للعلاج، بعيداً عن السرير الأبيض داخل المستشفى، ولكن ضمن معايير طبية صارمة.
 
الرعاية الصحية المنزلية تعني ببساطة أن تنتقل الخدمات الطبية والتمريضية إلى حيث يقيم المريض، بدلاً من أن يقيم هو في المستشفى. نحن لا نتحدث هنا عن مساعدة منزلية عادية، بل عن فريق صحي منظّم يضم أطباء وممرضات واختصاصيين في العلاج الفيزيائي أو التنفسي وغيرهم، يتابعون الحالة في المنزل وفق خطة علاجية واضحة، وبإشراف الطبيب المعالج. هذا النموذج يشمل متابعة المريض الذي أنهى علاجه في المستشفى ويحتاج إلى تبديل ضمادات ومراقبة أدوية وعناية بأنابيب تغذية أو أوكسجين، كما يشمل مرضى الأمراض المزمنة أو المستعصية الذين أصبح بقاؤهم في المستشفى مكلفاً ومرهقاً بلا فائدة علاجية كبيرة، لكنهم ما زالوا بحاجة إلى رعاية يومية محترفة. ويمكن أن تكون هذه الرعاية امتداداً لمرحلة إعادة التأهيل بعد الجلطات أو العمليات الكبرى أو الحوادث، بحيث يُستكمل جزء من العلاج في البيت لا في غرف المستشفيات المزدحمة.
 
في الواقع، تبدو الخدمة حاجة ملحّة في بلد مثل لبنان يعيش نظامه الصحي تحت أقصى الضغوط. كلفة الاستشفاء بالعملة الصعبة تتزايد، وأيام المكوث في المستشفى باتت عبئاً مالياً خانقاً على العائلات وعلى الصناديق الضامنة في آن واحد. عدد الأسرة محدود، وأي إشغال طويل لحالات مزمنة يضيّق الهامش أمام استقبال الحالات الطارئة والحادة. يضاف إلى ذلك نزيف هجرة الأطباء والممرضين الذي يضعف القدرة الاستشفائية ويجبر الدولة والقطاع الصحي على التفكير بنماذج أكثر مرونة في تقديم الخدمة. في هذا السياق، يمكن للرعاية الصحية المنزلية، إذا نُظّمت كما يجب، أن تخفف من فاتورة الاستشفاء على المريض وعلى الدولة، وأن تفتح أمام المستشفيات مجالاً لإفراغ الأسرة من المرضى الذين لا يحتاجون إلى متابعة دقيقة من المستشفى، وأن تمنح في الوقت نفسه المريض راحة نفسية ومعنوية أكبر من خلال بقائه في منزله وبين أفراد عائلته.
 
اقتراح القانون الذي قُدّم إلى المجلس النيابي يحاول نقل هذه الفكرة من حيز المبادرات الفردية إلى مستوى السياسة العامة. فهو يضع إطاراً قانونياً لمؤسسات الرعاية الصحية المنزلية، كي لا تبقى الخدمة مبعثرة أو محصورة بشركات خاصة تعمل في الظل. ينصّ الاقتراح على أن تكون المؤسسة شخصاً معنوياً مرخّصاً ومسجّلاً في وزارة الصحة، مع إمكان أن تنشئ المستشفيات فروعاً متخصصة بالرعاية المنزلية مع إدارتها الخاصة وتخضع للقانون ذاته. كما تُلزم المؤسسات غير التابعة للمستشفيات بالتعاقد مع مستشفى أو أكثر ضمن نطاق عملها، لضمان إمكان نقل المريض إلى الاستشفاء عند الضرورة الطبية.
 
إلى جانب ذلك، يربط الاقتراح هذه الخدمة بمنظومة التغطية الصحية الرسمية، إذ يعطي وزير الصحة صلاحية تحديد تعرفة الرعاية الصحية المنزلية بموجب قرار، على أن تغطيها وزارة الصحة العامة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وسائر الجهات الضامنة الرسمية. بهذا المعنى، لا تعود الرعاية المنزلية امتيازاً لمن يستطيع الدفع نقداً لشركة خاصة، بل تتحول إلى حق يمكن أن يستفيد منه المريض المؤمن أو المغطى من الدولة. كما يشدّد النص على شروط العاملين في هذه المؤسسات، لجهة الجنسية اللبنانية في الأصل، والمؤهلات العلمية والتراخيص النقابية، والسجل العدلي النظيف، مع إمكان منح استثناءات محدودة لغير اللبنانيين بقرار من وزير الصحة. وتُلزم المؤسسات بإعداد خطط رعاية مكتوبة لكل مريض، ومراجعتها دورياً، والالتزام بتوجيهات الطبيب المعالج، وتأمين خط اتصال متاح على مدار الساعة، إضافة إلى توثيق كل الأعمال الطبية والإدارية واعتماد نظام معلوماتي لحفظ السجلات، مع إقرار عقوبات جزائية ومالية على المخالفين أو من يمارس المهنة من دون ترخيص.
 
في حديثه لـ"لبنان24"، يوضح النائب بلال عبدالله أن الهدف الأساسي من الاقتراح هو نقل جزء من العبء عن المستشفيات والمرضى في آن واحد. يقول إن "الشق العلاجي الذي يجري الحديث عنه موجه لفئتين من المرضى: أولئك الذين أنهوا علاجهم داخل المستشفيات ويحتاجون إلى متابعة رعاية صحية، وأولئك الذين لم تعد هناك إمكانية لتحسّن أوضاعهم الصحية، ولكنهم ما زالوا بحاجة لتلقّي العلاج". ويوضح أن "عدداً من الأمراض يتطلّب استمرار العلاج، لكن ليس من الضروري أن يبقى المريض في المستشفى"، مشيراً إلى أن الاقتراح "بُني على هذه القاعدة، وتمّت مناقشته مع أصحاب العلاقة والمعنيين بالشأن الصحي، على أن يُصار إلى تنظيم هذا القطاع بشكل متكامل". ويذكّر عبدالله بأن "هذه المؤسسات موجودة أصلاً في لبنان، لكنها تعمل في القطاع الخاص وهي متوقفة أو محدودة النشاط"، ولذلك "كان من الضروري إدخالها في إطار التقديمات الاجتماعية الصحية للصناديق، لتصبح جزءاً من منظومة الرعاية، تخفف الضغط عن المستشفيات وعن عائلات المرضى وعبء التردد الدائم إلى المؤسسات الاستشفائية، خصوصاً في حالات الإقامة الطويلة".
 
إذا أبصر هذا القانون النور، وصدرت المراسيم التطبيقية بجدية، يمكن للبنانيين أن يلمسوا تدريجياً تغييراً في طريقة التعامل مع الحالات المزمنة والمستعصية. فالمريض أو عائلته لن يعودوا مضطرين للاختيار بين إقامة طويلة ومكلفة في المستشفى، وبين رعاية بدائية في البيت تعتمد على اجتهاد الأقارب. الطبيب المعالج سيكون جزءاً من منظومة محددة سلفاً، يحيل من خلالها المريض إلى مؤسسة مرخّصة للرعاية المنزلية، ضمن بروتوكول واضح للتواصل والمتابعة والتعديلات العلاجية. في المقابل، ستدفع الدولة والصناديق الضامنة فاتورة "رعاية منزلية" أدنى بكثير من كلفة سرير في المستشفى، مع الحفاظ على مستوى مقبول من الخدمة الطبية والتمريضية، ما يخفف الضغط المالي عن النظام الصحي برمته. وعلى المدى الأبعد، قد يفتح هذا النموذج أيضاً مجالاً أمام فرص عمل جديدة في التمريض والعلاج الفيزيائي والرعاية التلطيفية، ضمن إطار قانوني منظم يحمي العامل والمريض معاً.
 
مع ذلك، يبقى التحدّي في التطبيق لا في النصوص. نجاح تجربة الاستشفاء المنزلي في لبنان يحتاج إلى رقابة فعلية على جودة الخدمة، كي لا تتحول إلى تجارة بالمرضى تحت عنوان "التوفير"، وإلى شفافية في تحديد التعرفة وتقاسم الكلفة بين وزارة الصحة والضمان وبقية الجهات الضامنة، وإلى تعاون حقيقي بين المستشفيات والقطاع الخاص والوزارة بعيداً عن صراع المصالح. لكن ما يبدو واضحاً هو أن خيار الرعاية الصحية المنزلية، كما يصفه عبدالله، "ليس ترفاً بل ضرورة ملحّة"، وربما يشكّل إحدى الأدوات القليلة المتبقية لتخفيف الضغط عن المستشفيات وحماية المرضى وعائلاتهم من انهيار إضافي… هذه المرّة على سرير المستشفى.

أخبار ذات صلة

0 تعليق