صراع الكاتب والناشر (2): وزارة الثقافة وصمت يثير الأسئلة! 

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في الدول التي تدرك أن الثقافة ليست ترفًا، ولا مجرد نشاط احتفالي، لا يُنظر إلى النشر باعتباره شأنًا مهنيًا محدودًا، بل بوصفه قضية وطنية تمس الوعي الجمعي، ومستقبل الإبداع، وحق المجتمع في معرفة جادة ومتوازنة.

 ومن هذا المنطلق، يصبح السؤال مشروعًا ومُلِحًّا: أين يقف وزارة الثقافة ووزيرها من واقع صناعة النشر في مصر، ومن شكاوى الكتّاب والمؤلفين المتكررة، ومن حالة الغموض التي تحيط بحقوقهم وعوائدهم وملكية أعمالهم الفكرية؟

لا يمكن إنكار ما تقوم به الوزارة من فعاليات ومعارض ومهرجانات وأنشطة ثقافية متعددة، غير أن الملف الأهم، وهو ملف الكاتب ذاته، فالكاتب ليس ترفًا ثقافيًا ولا عنصرًا هامشيًا في بنية المجتمع، بل هو أحد أعمدتها الأساسية في تشكيل الوعي وصياغة الذاكرة الجمعية، والأمم لا تُبنى فقط بما تملكه من موارد أو ما تحققه من إنجازات مادية، وإنما بما تنتجه عقول كتّابها من أفكار، وما يقدمه مبدعوها من معنى يفسّر الواقع، وينقده، ويقترح أفقًا أرحب للمستقبل. 

وحين يشعر الكاتب بالأمان والعدل والتقدير، تزدهر الثقافة وتتماسك الهوية، أما حين يُهمَّش أو تُهدر حقوقه، فإن الخلل لا يصيب فردًا بعينه، بل يمتد أثره إلى الوعي العام، ويترك المجتمع أقل قدرة على الفهم والمراجعة والتجدد.

لكن يبدو أن هذا الملف وكأنه خارج دائرة الضوء. فلا نكاد نسمع موقفًا واضحًا، أو رؤية معلنة، أو مبادرة جادة تتعامل مع أزمات النشر بوصفها أزمة بنيوية ممتدة، لا مجرد حالات فردية متفرقة، ويزداد الأمر التباسًا في ظل غياب حوار مؤسسي منظم بين وزارة الثقافة، واتحاد الناشرين، وأصحاب المصلحة من الكُتاب والمؤلفين، وسائر أطراف العملية الثقافية، بما يضمن توازن المصالح وحماية الطرف الأضعف فيها.

واللافت أن الكاتب، وهو حجر الزاوية في أي مشروع ثقافي، غالبًا ما يُستبعد من دوائر القرار، وفقط يُحتفى بالكتاب كمنتج، وبالمعارض كحدث، وبالأرقام كإنجاز، بينما يبقى صاحب النص نفسه خارج المعادلة، وحين تتكرر شكاوى الكتّاب من غياب الشفافية، ومن العقود المجحفة، ومن استباحة حقوقهم داخل مصر وخارجها، يصبح الصمت الرسمي – مهما كانت أسبابه – موقفًا قائمًا بذاته، لا يمكن فصله عن استمرار الأزمة.

فالثقافة لا تُختزل في الاحتفال، ولا في الافتتاح، ولا في الصور التذكارية، الثقافة تبدأ من حماية المبدع، ومن ضمان حقه، ومن صيانة كرامته المهنية، ولا يمكن الحديث عن “القوى الناعمة” في ظل كاتب يشعر بالعجز أو الإحباط أو الخوف من النشر، لأن القوة الناعمة لا تُصنع بالواجهات، بل بالبنية العادلة التي تحمي من يكتبون.

وقد يُقال إن شؤون النشر تقع في نطاق اختصاص اتحاد الناشرين، وإن الوزارة ليست طرفًا مباشرًا في العلاقة التعاقدية بين الكاتب والناشر، غير أن هذا الطرح يتجاهل حقيقة جوهرية، هي أن وزارة الثقافة تمثل الجهة السياسية والثقافية الأعلى المسؤولة عن رسم السياسات العامة، وعن التنسيق بين المؤسسات، وعن حماية التوازن داخل صناعة تمس وجدان المجتمع ووعيه، فغياب الدور لا يعفي من المسؤولية، وتأجيل التدخل لا يعني حيادًا.

ومن هنا يتجدد السؤال المنطقي الذي لا يمكن تجاهله: أين تقف وزارة الثقافة من هذا المشهد المربك؟ ولماذا تفضّل، حتى الآن، البقاء في منطقة الصمت، وكأن أزمة النشر والكاتب شأنٌ هامشي لا يستحق فتح ملفه؟

 إن تغييب الوزارة نفسها عن هذا النقاش لا يعني الحياد، بل يكرّس واقعًا مختلًا تتآكل فيه مكانة الكاتب، وتُترك فيه صناعة النشر نهبًا لاجتهادات فردية وصراعات مؤسسية بلا إطار تشريعي عادل، فالدولة التي تعلن، في كل خطاب رسمي، أن الثقافة جزء من أمنها القومي، لا يمكن أن تقبل باستمرار العمل بقوانين عفا عليها الزمن، وواقعٍ إداري يفرّغ الإبداع من قيمته الاقتصادية والمعنوية. 

إن عدم تفكير وزارة الثقافة في طرح مشروع قانون جديد للنشر، أو حتى فتح حوار مجتمعي جاد حوله، لا يحمي الاستقرار كما قد يُتصوَّر، بل يؤجل الانفجار، ويعمّق الفجوة بين الكاتب والمؤسسات، ويدفع كثيرًا من العقول الجادة إلى العزوف أو الهجرة أو الصمت، فالثقافة لا تُدار بالخوف من فتح الملفات، بل بالشجاعة في مواجهتها ولا تُصان بإغلاق الأبواب، بل بوضع قواعد عادلة توازن بين حق الكاتب، ومسؤولية الناشر، ودور الدولة كضامن للعدالة وحامٍ لروح الأمة.

إننا بحاجة إلى قانون جديد للنشر يضع قواعد واضحة وملزمة للعلاقة بين الكاتب والناشر، ويحدد بدقة حقوق الملكية الفكرية، ويلزم بالشفافية في عدد الطبعات والتوزيع، ويضع آليات رقابية حقيقية، ويوفر مسارات قانونية سريعة لفض النزاعات، بعيدًا عن إنهاك الكاتب في دوائر التقاضي الطويلة.

وليس المطلوب قانونًا يُضيّق على صناعة النشر أو يُربكها، بل تشريعًا يُنظّمها، ويُعيد إليها الثقة، ويجعلها بيئة جاذبة للمواهب لا طاردة لها، فالقوانين الحديثة في الدول التي تحترم صناعاتها الثقافية لم تُصغ لحماية رأس المال وحده، بل لحماية الإبداع بوصفه ثروة وطنية، لا تقل قيمة عن أي مورد استراتيجي آخر.

إن استمرار الصمت، وترك هذا الملف الشائك لقواعد السوق وحدها، يعني عمليًا استمرار اختلال الميزان، واستمرار نزيف الموهبة، واستمرار إحباط أجيال جديدة من الكُتّاب، ولذلك، فإن كسر هذا الصمت لم يعد ترفًا، بل ضرورة ثقافية ووطنية، تبدأ من الاعتراف بالأزمة، ولا تنتهي إلا بإصلاح تشريعي ومؤسسي يعيد للكاتب مكانته، وللكتاب قيمته، وللثقافة دورها الحقيقي في بناء الإنسان.

ويبقى السؤال مفتوحًا، لا بوصفه اتهامًا، بل باعتباره نداءً مسؤولًا:

هل آن الأوان أن تتحرك وزارة الثقافة، وتضع ملف النشر وحقوق المؤلفين في صدارة أولوياتها؟

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق