«السردية المقريزية» حول «الشخصية المصرية»

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

اهتم المؤرخ الكبير تقى الدين المقريزى بتقديم سردية شديدة الإثارة حول الشخصية المصرية وسماتها، ومن أبرز الأفكار التى طرحها على هذا المستوى أن هناك علاقة أساسية تربط ما بين أبدان المصريين ومزاجهم النفسى. فمن وجهة نظر المؤرخ الكبير هناك علاقة بين الحالة الجسمية والحالة النفسية للفرد «لأن قوى النفس تابعة لقوى البدن»، وبسبب ضعف أبدان المصريين وقلة قدرتها على الصبر والتحمل فإن ذلك ينعكس على أخلاقياتهم، فتجدهم غير ثابتين على أمر، سريعى «التنقل من شىء إلى شىء»، ميالين إلى الكسل والشح وقلة الصبر، وسرعة الخوف، والحسد والنميمة والكذب والسعى إلى السلطان وذم الناس. 

ويؤكد «المقريزى» أن هذه السلبيات الشخصية لا توجد بالطبع فى كل المصريين، فمن بينهم تجد من خصّه الله بالفضل وحسن الخلق، لكنها تشيع لدى عدد لا بأس به منهم. ولم تسلم الحيوانات من لسان «المقريزى» إذ ذكر أن سائر ما فى مصر من حيوانات أضعف من نظيره فى البلدان الأخرى، باستثناء ما كان منها فى طبعه ملاءمة لهذه الحال كـ«الحمار والأرنب».

تعكس الأفكار التى يطرحها «المقريزى» فى وصف الشخصية المصرية حالة الاستعلاء التى دأبت النخبة المثقفة على التعامل بها مع البشر العاديين من أبناء هذا الشعب، منذ فترة مبكرة من تاريخنا. فـ«المقريزى» ولد وتوفى فى القاهرة، وعاش خلال الفترة الممتدة من أواخر القرن الرابع عشر إلى منتصف القرن الخامس عشر الميلادى، أى خلال العصور الوسطى التى احتضنت حكم المماليك. فثمة اتفاق على أن كل شعوب الأرض لا تخلو من سلبيات، لكنها أيضًا لا تخلو من إيجابيات، لكن هناك ميلًا موروثًا لدى النخبة المصرية إلى جلد الذات والتركيز على الجوانب السلبية التى تظهر فى الشخصية المصرية، وهو ميل يجد جذوره عند «المقريزى» الذى أفاض فى كتابة «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» فى ذكر «أخلاق أهل مصر وطباعهم وأمزجتهم»، واهتم بشكل خاص بتحليل العلاقة بين البنية الجسدية وطقس مصر ومناخها، ثم بحث فى انعكاس الحالة الجسمية على المزاج النفسى للمصريين وأخلاقياتهم، وذهب إلى أن الصحة الجسمية المعتلة تعد السبب الأهم للسلبيات الأخلاقية التى يتصف بها أغلب المصريين.

ولا يتوقف «المقريزى» عند رصد العلاقة بين حالة الضعف أو الاعتلال الجسدى والمزاج النفسى والأخلاقى للمصريين، بل حاول أيضًا اكتشاف العلاقة العكسية، وبحث فى تأثير اعتلال الحالة المزاجية للمصريين على صحتهم الجسمية، وانتهى فى هذا السياق إلى استخلاصات ملفتة ذكر فيها أن «الأحداث النفسانية» تتسبب فى إصابة الأفراد بالأمراض الموسمية الوبائية التى قد تتسبب فى موتهم، والأحداث النفسانية تتمثل- من وجهة نظر المقريزى- فى: «الخوف العام من بعض الملوك، فيسوء هضمهم (يقصد الناس)، وتتغير حرارتهم، وربما اضطروا إلى حركة عنيفة فى هذه الحال، أو يتوقعون قحط بعض السنين، فيكثرون الحركة والاجتهاد فى ادخار الأشياء، ويشتد غمهم بما سيحدث». قد يكون هذا الطرح سليمًا، ففى حالة الخوف يسوء المزاج العام للناس ويفرز الأفراد أسوأ ما فيهم من أخلاقيات، ومع شعور كل فرد فيهم بأن حياته مهددة فإنه يسارع إلى ادخار الأشياء خوفًا من القادم فى المستقبل، لكن يبقى أن تلك السمة لا تدمغ الشعب المصرى وحده، فكل الشعوب تختل حركتها ويهتز ميزان الأخلاق فيها حينما تخاف من المستقبل، كما أن الأوضاع النفسية السيئة قد تؤدى إلى إمراض الفرد والمجموع، خصوصًا أمراض المعدة، مثل سوء الهضم الذى تحدث عنه «المقريزى»، والذى تتزايد وطأته نتيجة الخوف والقلق وضغوط الواقع.

يُفرِط «المقريزى» فى ذكر العديد من الخصال السلبية التى تميز المصريين ويقول: «فالغالب على أخلاقهم الانهماك فى اللذات، والاشتغال بالترهات، والتصديق بالمحالات، وضعف المرائر والعزمات». ولو أنك تأملت هذه السمات فستجد أن بعضها إنسانى قائم فى كل البشر، مثل الانهماك فى اللذات، فكل الشعوب تحب اللهو واللعب، وتنهمك فى كل ما هو لذيد وممتع، وبعضها وارد بالفعل فى الشخصية المصرية، مثل الانشغال بالخرافات، فمن يقلّب صفحات التاريخ سيجد أن المصريين من أكثر الشعوب التى انشغلت بموعد القيامة، وقدّروا فى العديد من المرات أن القيامة ستقوم فى تاريخ معين، وصدّق الناس ذلك، فخرجوا إلى الشوارع يودّعون بعضهم البعض، ويستمتعون بالساعات الأخيرة لهم فى الحياة، وآوى بعضهم إلى المساجد ودور العبادة، وهرع بعضهم الآخر إلى الاستغفار، وهكذا حتى مر موعد القيامة دون أن تقوم!. هذا النوع من الانشغال بأقوال المنجّمين والعرافين وتخاريفهم حول موعد القيامة حدث عدة مرات عبر تاريخ المصريين، يضاف إلى ذلك تصديق المحالات، فكم من أشياء مستحيلة وغير عقلانية يمكن أن يصدقها المجموع فى مصر، أما ضعف المرائر والعزمات، فهو وارد فى أحوال وغير وارد فى أخرى، فأحيانًا ما يردد المصريون أن هذا الحدث أو ذلك الشخص «أتعب مرارتهم»، وأحيانًا ما يثبت المصريون أن عزمهم أقوى من الصخر، حين يبادرون إلى تغيير الواقع من حولهم.

ومن الملفت أن «المقريزى» ينظر إلى بعض السمات الإيجابية فى الشخصية المصرية من منظور سلبى، فهو على سبيل المثال يسمى الذكاء «مكرًا»، ويقول فى وصف المصريين: «ولهم خبرة بالكيد والمكر، وفيهم بالفطرة قوة عليه وتلطف فيه وهداية إليه، لما فى أخلاقهم من الملق والبشاشة التى أربوا فيها على من تقدم وتأخر، وخصوا بالإفراط فيها دون جميع الأمم، حتى صار أمرهم فى ذلك مشهورًا». إنه ليس مكرًا بل الذكاء الفطرى الذى يميز الشخصية المصرية عن غيرها، وتتجلى مظاهره فى التعامل الحسن مع البشر بـ«البشاشة» و«المجاملة» فيخطفون قلوبهم، ليقعوا فى غرام «المحروسة» وأبنائها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق