يقدّم كتاب «تحريم البغاء عند قدماء المصريين وحضّ الحكومة على إلغائه» أنطون ذكري، قراءة تاريخية ناقدة لإحدى أكثر القضايا إثارة للجدل، مسلطًا الضوء على الموقف الأخلاقي والقانوني للمجتمع المصري القديم من البغاء.
وينطلق المؤلف أنطون زكري من تفكيك صورة نمطية شائعة صاغها الخطاب الاستشراقي، روّجت لفكرة أن مصر القديمة كانت متسامحة مع الممارسات الجنسية أو مشرعِنة لها، مؤكدًا أن هذه الادعاءات تفتقر إلى سند تاريخي دقيق.
نقد الصورة الاستشراقية
يشير ذكري إلى أن كثيرًا من الدراسات الغربية أسقطت تصورات حديثة على مجتمعات قديمة، متجاهلة السياق الثقافي والقيمي لمصر الفرعونية. ويوضح أن المصريين القدماء أقاموا حضارتهم على منظومة أخلاقية صارمة، كانت الأسرة حجر أساسها، والمرأة ركيزة رئيسية في استقرارها. ومن ثم، فإن قبول البغاء كممارسة مشروعة يتناقض مع البنية الاجتماعية التي عرفتها مصر القديمة
الجسد في الثقافة المصرية القديمة
يعالج الكتاب مفهوم الجسد باعتباره كيانًا ذا قداسة خاصة، مرتبطًا بفكرة النظام الكوني والانسجام الأخلاقي المعروف بمبدأ «ماعت». وفي هذا الإطار، لم يكن الجسد مجالًا مباحًا للاستغلال أو التجارة، بل أمانة ينبغي صونها.
ويرى المؤلف أن تحريم البغاء جاء انسجامًا مع هذا التصور، بوصفه ممارسة تنتهك الكرامة الإنسانية وتهدد التوازن الاجتماعي.
النصوص الدينية وتعاليم الحكمة
يعتمد الكتاب على نصوص دينية وأخلاقية عديدة، مثل تعاليم الحكماء وكتب الحكمة التي انتشرت في مصر القديمة، والتي شددت على العفة وضبط السلوك، ورفضت الفجور والانحلال. ويؤكد المؤلف أن هذه النصوص لم تكن موجهة للنخبة فقط، بل شكّلت وعيًا جمعيًا يربط بين الأخلاق الفردية والصالح العام.
يفنّد المؤلف فكرة «البغاء المقدس» التي شاعت في بعض الكتابات، موضحًا أنها نتجت عن سوء فهم للطقوس الدينية الرمزية.
ويؤكد أن القوانين والأعراف المصرية القديمة لم تعترف بالبغاء كمهنة، بل اعتبرته سلوكًا منحرفًا يستوجب الردع. كما يستعرض شواهد على تدخل الدولة للحد من هذه الظاهرة، بما يعكس دور السلطة في حماية الأخلاق العامة.
من الماضي إلى الحاضر
لا يتوقف الكتاب عند السرد التاريخي، بل ينتقل إلى الحاضر، حيث يحضّ الحكومات المعاصرة على إعادة النظر في سياساتها تجاه البغاء.
ويرى أن تقنينه لا يمثل تقدمًا حضاريًا، بل تكريسًا لاستغلال الجسد وتعميقًا للهشاشة الاجتماعية، خاصة بين النساء.
نقد الخطاب الحداثي
ينتقد المؤلف الخطاب الحداثي الذي يربط الحرية بتحرير الجسد من كل قيد أخلاقي، معتبرًا أن هذا الطرح يتجاهل البعد الاجتماعي والإنساني للمسألة.
ويؤكد أن المجتمعات القديمة، رغم اختلاف ظروفها، امتلكت وعيًا عميقًا بخطورة تفكيك المنظومة الأخلاقية، وهو وعي لا يزال صالحًا للنقاش اليوم.

















0 تعليق