مع اقتراب موعد اللقاء المرتقب بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 29 ديسمبر، تدخل المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة فترة حرجة، تتسم بتشابك الأبعاد السياسية، الأمنية، والدبلوماسية.
لم تعد القضية الفلسطينية ملفا محليا أو إنسانيا فحسب، بل تحولت إلى عنصر محوري في استراتيجية واشنطن لإعادة ترتيب التوازنات الإقليمية، خاصة في مواجهة النفوذ الروسي والصيني في الشرق الأوسط. هذا اللقاء يشير إلى رغبة الإدارة الأمريكية في فرض جدول زمني واضح للمرحلة الثانية، يربط بين استقرار القطاع وضمان مصالحها الاستراتيجية على نطاق أوسع.
الجانب الأمني يمثل العقدة الأكثر تعقيدًا في المرحلة المقبلة، فحتى مع تجميد أو تخزين أسلحة حماس، يظل السؤال حول الجهة المسؤولة عن مراقبة ونزع القدرات المسلحة محل خلاف، في ظل رفض إسرائيل لأي تدخل تركي أو عربي مباشر، بينما تبحث واشنطن عن وسيلة لتثبيت الترتيبات الأمنية دون الإضرار بعلاقاتها مع الطرفين، هذا التعقيد يعكس فجوة ثقة عميقة بين الأطراف، ويظهر محدودية قدرة أي قوة خارجية على فرض حلول جذرية دون توافق محلي.
المسألة الإدارية تشكل تحديًا آخر، حكومة تكنوقراط فلسطينية مستقلة عن حماس والسلطة الفلسطينية تبدو فكرة مثالية على الورق، لكنها تواجه تحديات تنفيذية كبيرة، أبرزها احتمال استمرار تأثير القوى المحلية القديمة داخل مؤسسات القطاع. إن أي ضعف في الإشراف أو الانقسام الداخلي قد يؤدي إلى فشل المرحلة الثانية، ويحول أي إنجاز مؤقت إلى حالة اضطراب جديدة، وهو ما يدركه صانعو القرار الأمريكي الذين يسعون لإدماج هذه الحكومة ضمن آلية إشرافية تضمن الحد الأدنى من الالتزام بالسياسات الأمنية والسياسية المخططة.
التحديات الاقتصادية والاجتماعية أيضا حاضرة بقوة، إذ أن أي نجاح مرحلي مرتبط بقدرة السلطة الانتقالية على إدارة إعادة الإعمار وتقديم الخدمات الأساسية للسكان. عدم تحقيق تقدم ملموس في هذه الملفات قد يؤدي إلى فقدان الشرعية المحلية لأي حكومة مؤقتة، ويزيد من الضغط على الأطراف الدولية لتقديم حلول عاجلة، هنا يظهر الدور الاستراتيجي للإشراف الأمريكي، الذي يسعى لتوظيف الدعم الاقتصادي والسياسي كأداة ضغط لتحقيق الالتزام بالترتيبات الأمنية والسياسية.
الدبلوماسية الأمريكية تستثمر اللقاء لتوسيع نطاق التأثير، ليس فقط على إسرائيل والفلسطينيين، بل على الموقف الإقليمي ككل، الضغط على تل أبيب لتطبيق المرحلة الثانية وفق المعايير الأمريكية، وربطها بمكاسب إقليمية أكبر، يمثل محاولة لتحويل غزة من ملف محدود إلى منصة نفوذ قادرة على إعادة تشكيل ديناميكيات التحالفات الإقليمية، بما يضمن للولايات المتحدة قدرة أكبر على التحكم في مسار الأحداث والتدخل المباشر في حال ظهور تهديدات دولية.
ينبغي على الفلسطينيين استثمار الفترة المقبلة بحكمة مزدوجة: الحفاظ على وحدة الداخل السياسي بين الفصائل، مع تعزيز مؤسسات القطاع لتكون قادرة على إدارة الخدمات وإعادة الإعمار، واستثمار الضغوط الدولية لتعزيز موقفهم التفاوضي، كما يتعين عليهم تطوير أدوات دبلوماسية وإعلامية فعالة، للتأكيد على حقوقهم الإنسانية والسياسية، دون الانجرار إلى صراعات قد تفقدهم السيطرة على الأرض أو تقلل من مصداقيتهم أمام المجتمع الدولي.
يستطيع ترامب ممارسة ضغوط فعّالة على نتنياهو من خلال ملف الدعم العسكري الأمريكي، إذ تمتلك واشنطن القدرة على ربط استمرار تزويد إسرائيل بالأسلحة المتطورة والذخائر وقطع الغيار بمستوى التزام الحكومة الإسرائيلية بالمرحلة الثانية من اتفاق غزة، أو حتى التلويح بتجميد أو تأخير بعض صفقات السلاح الحساسة، وهو ما يشكل ضغطًا مباشرًا على المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
وإلى جانب ذلك، يمكن لترامب استخدام ورقة الدعم السياسي والقانوني، عبر تقليص أو وقف الغطاء الأمريكي لإسرائيل في المحافل الدولية، خاصة في ما يتعلق بملفات التحقيق والملاحقة القضائية الدولية، وترك نتنياهو أكثر عرضة للضغوط المرتبطة بملفات المحاكمة، كما أن النفوذ الأمريكي قد يمتد بشكل غير مباشر إلى ملف العفو أو التخفيف في قضايا الفساد الداخلية، من خلال الدعم السياسي والإعلامي أو سحبه، بما يجعل نتنياهو أكثر حساسية لأي ضغوط أمريكية، ويدفعه للتجاوب مع الرؤية الأمريكية في غزة مقابل الحفاظ على شبكة الأمان العسكرية والسياسية التي توفرها واشنطن.
وأعتقد أن القاء سيكون منصة للضغط الأمريكي المكثف على الحكومة الإسرائيلية لتطبيق المرحلة الثانية من اتفاق غزة وفق رؤية واشنطن، مع التركيز على تثبيت وقف إطلاق النار، إعادة هيكلة الإدارة المحلية للقطاع، والإشراف على العمليات الأمنية.
من المرجح أن يحاول ترامب فرض جدول زمني محدد وإنهاء أي مماطلة إسرائيلية بشأن مشاركة القوة الدولية أو دور الحكومة الانتقالية، بينما سيحاول نتنياهو موازنة الضغوط الأمريكية مع المخاوف الأمنية والسياسية الإسرائيلية، اللقاء قد يشهد أيضًا بحث أوسع للموقف الإقليمي، بما يشمل إيران، النفوذ الروسي والصيني، وربط استقرار غزة بالاستراتيجية الأمريكية في شرق المتوسط، ما يجعله اختبارا حاسمًا لقدرة واشنطن على تحويل القطاع إلى أداة نفوذ استراتيجية.










0 تعليق