مع فجر الجمعة، 12 ديسمبر 2025، خفَت صوت كان يشبه في حضوره رفعة الكتب وصلابة الموقف. رحل محمد هاشم، أحد أبرز ناشري مصر ومؤسس دار ميريت، عن عمر 67 عامًا، بعد أيام قاسية من نزلة برد لم تُمهله طويلًا. وحده الخبر الذي أعلنه الدكتور أحمد مجاهد كان كفيلًا بأن يعصف بقلوب محبيه؛ فقد نعى الرجل بوصفه "علامة بارزة في مسيرة الثقافة والسياسة بمصر"، وكأنه يودّع فصلًا كاملًا من حكاية التنوير المصرية.
وُلد هاشم في 29 يناير 1958 بمدينة طنطا، في قلب الدلتا، لكنه لم يكن ابن مدينة بقدر ما كان ابن فكرة؛ فكرة الحرية والعقل والكتابة. بدأ صحفيًا وكاتبًا، ثم انجذب – كما يفعل الحالمون – إلى السياسة في سبعينيات مصر المشتعلة. وفي عام 1979، دفع ثمن هذا الانجذاب اعتقالًا طويلًا بتهمة الانتماء للحركة الشيوعية وقلب نظام الحكم وإهانة رئيس الجمهورية في عهد السادات. خرج من السجن كما يدخل الكاتب إلى فصلٍ جديد: أكثر صلابة، وأشد إيمانًا بدوره.
بعد سنوات خارج البلاد أواخر الثمانينيات، عاد ليستأنف عمله في دار "المحروسة" اثني عشر عامًا. لكن روحه كانت تبحث عن مساحة أرحب. وفي 1998، وُلدت "ميريت"؛ دار نشر حملت اسم الملكة الفرعونية التي ترمز للجمال والقوة والأنوثة، وكأن هاشم أراد أن تكون الدار أنثى مصرية تمشي في قلب القاهرة، تدافع عن حرية أبنائها وتحتضن أحلامهم.
لم تكن ميريت مجرد دار نشر؛ كانت بيتًا، ساحةً للنقاش، وخندقًا ثقافيًا. في غرفها وعلى سلالمها وعلى طاولاتها الصغيرة تكوّنت صداقات واشتعلت معارك فكرية، وترددت حكايات لا تُحصى. كان هاشم موجودًا في كل ذلك، يجلس وراء أكوام الكتب كما وصفه نادي القلم الألماني حين منحه جائزة "هيرمان كستن": "كالجنود خلف أكياس الرمل". لم يكن رجل كتب فقط، بل رجل معركة.
شارَك في مظاهرات ما قبل أحداث يناير، وتحول مقر الدار في وسط البلد إلى رئة ثورية قرب ميدان التحرير؛ مكان يجد فيه الشباب ملاذًا، وكهلًا مثل هاشم يقودهم بحكمته وشغفه. وفي 30 يونيو، صُنعت لافتات الاحتجاج داخل الدار نفسها، وكأنها معمل للمقاومة المدنية.
واجه مضايقات أمنية واتهامات ومحاولات لإسكاته؛ أُغلقت الدار عام 2015، وصودرت كتب، واعتُقل عام 2020 قبل أن يخرج بكفالة. ومع ذلك، ظل مبتسمًا، يكرر جملته الشهيرة: "أمام كل كتاب ناجح، هناك أربعة لا تغطي تكلفتها.. لكننا نبني المستقبل".
وفي 2004، نشر روايته اليتيمة "ملاعب مفتوحة"، ليضيف اسمه أيضًا إلى سجل المبدعين الذين لا يكتفون بدعم الآخرين، بل يكتبون وجعهم بأيديهم.
نعاه عادل ضرغام بكلمات تُختصر فيها الخسارة: "يخسر النشر والثقافة العربية واحدًا من أهم صناعها.. فقد نقل صناعة النشر نقلة كبيرة".
دار ميريت.. البيت الذي صار وطنًا للكتّاب
منذ اللحظة التي رفعت فيها دار ميريت لافتتها الأولى عام 1998 في شارع قصر النيل—ذلك الشارع الذي يتشابك فيه التاريخ مع ضوضاء المدينة—بدا أن شيئًا استثنائيًا يولد في قلب القاهرة. لم تكن مجرد دار نشر ناشئة، بل كيانًا ينتمي لزمن آخر؛ زمن يقدّس الحرية ويستقبل الأفكار الجريئة بلا خوف. وسط مبانٍ تئن من القدم ومقاهٍ تحتضن المثقفين، جاءت ميريت كأنها بذرة زرعت في تربة مشبعة بتاريخ النضال الفكري، لتعلن منذ يومها الأول أنها مشروع لا ينتمي إلى السوق، بل إلى الحلم.
كان لإبراهيم منصور، واحد من أكثر المثقفين المصريين تأثيرًا وهدوءًا، دور بالغ الأهمية في احتضان هذا المشروع الوليد. بفضل حكمته ودعمه تحوّل المكان بسرعة من دار نشر صغيرة إلى مكتبة يتردد عليها الباحثون عن المختلف، ثم إلى صالة نقاش تحتضن الحوارات الساخنة، وصولًا إلى صالون فلسفي تُطرح فيه الأسئلة الكبرى حول العقل والحرية والمعرفة. لم يكن المكان مجرد جدران وأرفف؛ كان فضاءً فكريًا نابضًا بالحياة، تحضر فيه كلمات مثل "العقلانية" و"حرية التعبير" كما لو كانت ضيوفًا دائمين لا يغادرون.
هذا الحراك الثقافي الاستثنائي جذب أنظار العالم، حتى أن صحفًا دولية مثل نيويورك تايمز والجارديان وصفت ميريت بأنها "مكة المثقفين". والحق أن الوصف لم يكن مجاملة، بل اعترافًا بأن الدار تحولت إلى معبر تمر من خلاله الأصوات الأدبية الأبرز في العقدين الأخيرين. فقد احتضنت ميريت الطبعة الأولى من "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، الرواية التي هزت الوسط الأدبي وكسرت المحظورات، كما قدمت للقارئ رواية "فيرتيجو" لأحمد مراد التي أعادت تعريف أدب التشويق المصري.
لكن قائمة ميريت لم تقتصر على الأسماء الجماهيرية؛ إذ قدمت أيضًا أعمالًا شكلت جزءًا أصيلًا من الحداثة الأدبية العربية، مثل كتابات ميرال الطحاوي وإيمان مرسال وحمدي أبو جليل وأحمد العايدي، إضافة إلى الأعمال الجريئة لمحمد عبد الصمد. كانت الدار تميل نحو التجارب الطليعية التي تمنح من الهامش، وتمنح صوتًا لأولئك الذين كانوا يطرقون أبواب النشر التقليدي دون أن يفتح لهم أحد. كان محمد هاشم يؤمن بأن الأدب الحقيقي لا يولد من السلطة، بل من الشارع ومن التجارب الإنسانية العميقة.
وإذا كانت النصوص التي نشرتها ميريت قد حفرت أثرها في الوعي الأدبي، فإن هويتها البصرية لعبت دورًا لا يقل أهمية. فقد صمم الفنان الكبير أحمد اللباد أغلفتها التي سرعان ما أصبحت علامة مميزة يعرفها القرّاء فور أن تقع أعينهم عليها. تلك الأغلفة—بخطوطها الجريئة وألوانها الهادئة وتركيبتها الفنية—تحولت إلى جزء من ذاكرة القراءة في مصر، وصارت تمثل أسلوبًا فنيًا خاصًا بميريت، يكشف عن روح الدار ويعكس جرأتها الجمالية.
ولعل الروائي صلاح النصراوي عبّر بأصدق الكلمات عن تأثير ميريت حين تحدث عن تجربته الأولى معها في عام 2002، يوم نشر روايته "حافات الأمل". كان يروي الحكاية كما لو أنه يستعيد ميلادًا شخصيًا جديدًا؛ فالدعم الذي وجده، والاهتمام الذي تلقّاه، والشعور بأنه يُقرأ ويُحتضن لأول مرة بجدية، جعله يرى في ميريت أكثر من مجرد دار نشر: رآها بيتًا، وأفقًا، ونقطة تحول في مسيرته الإبداعية. وتجربته ليست استثناءً، بل صورة متكررة عاشها عشرات الكتاب الذين وجدوا في ميريت المكان الذي لا يخاف من المجازفة، والذي يؤمن بأن الكتابة لحظة خلاص، وأن دور النشر ليست مؤسسات تجارية فقط، بل عائلات روحية لأبنائها.
إرث ثقافي لا ينطفئ
لم يكن تأثير محمد هاشم ودار ميريت على النشر المصري مجرد تطوّر مهني، بل كان أشبه بزلزال ثقافي حرّك المياه الراكدة في سوق ظل طويلًا حبيس الدور الحكومية الرتيبة والإجراءات البيروقراطية الثقيلة. قبل ميريت، كانت الأصوات الشابة تصطدم بجدران مغلقة، وكانت الأفكار الجريئة تُراجع وتُقص وتقاس بمعايير الخوف. جاء هاشم ليكسر هذا النسق، ففتح نافذة واسعة دخل منها الضوء لأول مرة إلى أجيال كانت تبحث عن مكان تكتب فيه بلا وصاية وتفكر بلا خصومة مع أحد.
ومع مرور السنوات، تحولت الدار إلى منبر لأصحاب الأصوات المهمشة، أولئك الذين حملوا على عاتقهم همّ الأسئلة الصعبة والمساءلات الجذرية للمجتمع والسياسة والسلطة والذاكرة. من خلال كتبهم، تشكّل خطاب ثقافي نقدي مغاير، خطاب يتقدم خطوة كلما تراجع الخوف خطوة، ويمتد كلما انفتح أفق جديد. في قلب وسط البلد، حيث تختلط رائحة الورق القديم بصخب الشارع، صارت ميريت أشبه بورشة مفتوحة لإعادة صياغة الوعي المصري الحديث، ومختبرًا تنتج فيه الأفكار الأكثر تحررًا.
لم يبق تأثير الدار محصورًا في نطاقها الأدبي، بل تجاوز ذلك ليصبح لها حضور ملموس في الحياة العامة والسياسية. ففي أحداث يناير 2011، كان مقرّها واحدًا من أهم "المقار الثقافية للانتفاضة"، مكانًا يتجمع فيه الشباب والفنانون والكتّاب، يتبادلون الأفكار ويخططون ويكتبون الشعارات ويستمدون من المكان قوة رمزية وروحية. لقد كانت ميريت في تلك اللحظة جزءًا من نبض الشارع، وكأنها كُتبت أصلًا لتلتحم بالحركة الشعبية حين تقوم، ولتضع الأدب في خدمة الحرية حين تنادي.
ولذلك لم يكن غريبًا أن يصف الروائي سامح الجباس الدار بقوله: "ميريت كانت البوصلة لسنوات طويلة". كانت بوصلة حقيقية؛ ترشد الكتّاب إلى الاتجاه الذي تسير فيه الرياح الثقافية الجديدة، وتساعد القرّاء على تمييز الأدب الذي يُحدث الأثر من الذي يكتفي بالتكرار. أما الكاتب أحمد صبري أبو الفتوح فقد ذهب إلى ما هو أبعد حين قال: "ظاهرة لا تتكرر في عالم الرجولة والمجدعة"، وهي شهادة لا تعكس قيمة الدار فقط، بل تعكس شخصية محمد هاشم نفسه؛ الرجل الذي لم يتردد يومًا في الدفاع عن كتّابه وأصدقائه وأفكاره.
في مجمل هذه الشهادات يتضح أن ميريت كانت، بالنسبة لمن عرفوها أو مرّوا بها، أكثر من مؤسسة نشر. كانت روحًا، ورؤية، وشكلًا من أشكال المقاومة الثقافية. كانت المكان الذي يستطيع الكاتب فيه أن يكون ذاته، بلا ابتذال ولا مساومة، وكانت تمنح النصوص التي تحمل بصمة التمرد مأوىً آمنا، وتحمي الهوامش من أن تذوب في المركز. لقد خلقت الدار، بفضل هاشم، نموذجًا فريدًا للنشر المستقل في مصر والوطن العربي، نموذجًا يجمع بين الحرف والموقف، بين الفن والشجاعة.
واليوم، بعد رحيل محمد هاشم، يبقى السؤال الأهم: ماذا نرث من رجلٍ عاش حياته كلها كجملة واحدة لا تعرف علامات الوقف؟ الجواب يتجسد في الدار التي بناها، والوجوه التي احتضنها، والكتب التي دافع عنها كأنها أبناء. غيابه بلا شك يترك فراغًا لا يُسد، لكنه في الوقت نفسه يحضر في كل صفحة نُشرت بجرأة، وفي كل فكرة خرجت من ميريت لتشق طريقها في وعي القارئ العربي. إنه حضور من نوع خاص، لا ينطفئ، بل يتحول إلى إرث يلهم كل من يرفض الاستسلام ويواصل الحلم بثقافة حرة، متمردة، وصادقة.








0 تعليق