أبوبكر الديب يكتب: صوت أنقرة بالقاهرة.. جسور الثقة تنعش الإقتصاد والسياسة

البوابة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

شهدت العلاقات المصرية التركية خلال السنوات الأخيرة تحولًا ملحوظًا، انتقلت فيه من مرحلة الحذر السياسي إلى مسار تعاون أكثر اتزانًا يقوم على المصالح المشتركة والاعتبارات الاقتصادية الواقعية.. هذا التحول لم يأتِ مصادفة، بل كان نتاج إرادة سياسية واضحة من البلدين لإعادة بناء جسور التعاون، مدعومًا بقواعد اقتصادية قوية تشهد اليوم نموًا متسارعًا في عدة قطاعات.

وجاءت عودة السفراء في صيف 2023 كخطوة مفصلية فتحت الباب أمام مرحلة جديدة من التعاون. وهو ما انعكس سريعًا على الملفات الاقتصادية، حيث أدرك الطرفان أن الفوائد المشتركة تتجاوز أي خلافات ظرفية وأن التعاون الاقتصادي يمثل أرضية صلبة يمكن البناء عليها.

وبحلول عام 2024، شهد حجم التبادل التجاري بين مصر وتركيا، ارتفاعًا واضحًا ليقترب من 7  مليارات دولار سنويًا، بزيادة ملحوظة مقارنة بالسنوات السابقة، ويمثل هذا الرقم مؤشرًا مهمًا على قدرة البلدين على تطوير علاقاتهما رغم الظروف الإقليمية المتقلبة.

وفي قلب هذه المرحلة برز اسم السفير التركي بالقاهرة، صالح موطلو شن، الذي لعب دورًا محوريًا في دفع العلاقات إلى مستويات أكثر عمقًا وواقعية، وبناء مسار ثابت لتعظيم المصالح المشتركة بين البلدين.

ومنذ وصوله إلى القاهرة، حمل السفير صالح موطلو شن رؤية واضحة تتجاوز القواعد التقليدية للعمل الدبلوماسي.. فقد أدرك أن نجاح التقارب يستند اضافة للإرادة السياسية، إلى بناء ثقة مستدامة بين المؤسسات والشعوب، وإظهار جدية عملية تُترجم إلى مبادرات ملموسة في الاقتصاد والثقافة والسياسة.

واعتمد شن على نهج «الدبلوماسية الهادئة»، الذي يقوم على: فتح قنوات تواصل مباشرة مع مختلف الأجهزة المصرية والتركيز على الملفات القابلة للتحقيق وتفعيل أدوات الدبلوماسية الشعبية والثقافية وإعطاء الاقتصاد أولوية مطلقة باعتباره أقصر طرق التعاون.

وبهذا النهج العملي، استطاع خلال فترة قصيرة أن يحول التقارب من مجرد خطاب سياسي إلى خطوات تنفيذية على الأرض.

ومن أبرز مجالات التطور في العلاقات المصرية - التركية خلال الفترة الأخيرة القطاع الاقتصادي.. وقد عمل السفير على تنشيط التواصل بين مجتمع الأعمال المصري والتركي عبر: تنظيم لقاءات مشتركة بين اتحادات الغرف التجارية والصناعية، وتشجيع الشركات التركية القائمة في مصر على توسيع استثماراتها، وفتح الباب لدخول شركات جديدة، وخاصة في الصناعات الغذائية والمنسوجات والصناعات الهندسية.

وقد انعكس ذلك على ارتفاع حجم التجارة الثنائية، وعودة اهتمام الشركات التركية بالسوق المصري باعتباره منصة صناعية وتصديرية مهمة في المنطقة، كما ساعدت جهوده في تذليل بعض العقبات الفنية التي كانت تعطل توسع الاستثمارات.

وعلى مستوى الصادرات المصرية، سجلت مصر ارتفاعًا في صادراتها إلى تركيا لتصل إلى نحو 3.3 مليار دولار في 2024، مدفوعة بقطاعات مثل الكيماويات، الأسمدة، المعادن، والمنتجات الزراعية المصنعة، وهذه الزيادة تعكس تحسن القدرة التنافسية للمنتج المصري في السوق التركية واتساع نطاق الشركات المصرية المصدّرة.

أما الصادرات التركية إلى مصر فقد تجاوزت 4  مليارات دولار في 2024، لتؤكد أن السوق المصرية تمثل أحد أكبر وجهات التصدير الإقليمي للمنتج التركي، خصوصًا في مجالات المنسوجات، الأجهزة المنزلية، الصناعات الهندسية، وقطع الغيار.

إلى جانب ذلك، دعم شن خطوات التعاون في مجالات جديدة، منها الشحن البحري، وقطاعات الطاقة، والتجارة اللوجستية، وبحث فرص ربط الموانئ المصرية والتركية بما يخدم حركة التجارة الإقليمية.

وأسهم السفير مع الدور الريادي لسفارة مصر في تركيا بقيادة د. وائل بدوي ومن قبله السفير عمرو الحمامي، في تمهيد الطريق لزيارات رفيعة المستوى بين المسؤولين، وتنسيق مواقف مشتركة في بعض الملفات الإقليمية، وتعزيز الحوار بين البلدين في قضايا مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية.

كما تبنى خطابًا يقوم على احترام السيادة المصرية، والتأكيد على أن التعاون الإقليمي لا بد أن يقوم على مبدأ الشراكة وليس التنافس، وهي رسالة تركت صدى إيجابيًا لدى صانعي القرار والجمهور على حد سواء.

وسعى صالح موطلو شن إلى خلق مساحات جديدة للتقارب الثقافي بين البلدين، إيمانًا منه بأن العلاقات السياسية مهما كانت قوية، لن تكتمل من دون رافعة ثقافية تحظى بقبول شعبي.

فقد نظم وأشرف على مجموعة واسعة من الفعاليات، منها: لقاءات ثقافية تضم مثقفين ومبدعين من البلدين، وفعاليات فنية ومعارض ذات طابع تركي - مصري مشترك، ودعم برامج التبادل الطلابي، وزيادة المنح التعليمية المقدمة للطلاب المصريين.

كما حرص على زيارة مؤسسات ثقافية مصرية بارزة، مثل مكتبة القاهرة الكبرى، وقدّم مجموعات من الكتب التي تبرز العمق الثقافي التركي، في خطوة هدفت لتعزيز الحوار الحضاري بعيدًا عن تأثير السياسة.

وتعدّ هذه المقاربة الجديدة دليلًا على رغبة السفير في تحويل منزله الدبلوماسي إلى "منصة تواصل إنساني وثقافي"، وليس مجرد مقر رسمي، وهو ما انعكس بالفعل في تنامي الحوار الشعبي حول أهمية تحسين العلاقات.

وتستند جهود السفير شن إلى قاعدة معرفية ومهنية طويلة.. فقد وُلد عام 1964، ودرس العلوم السياسية في جامعة أنقرة، ثم حصل على درجة الماجستير من كلية لندن للاقتصاد.. ومنذ انضمامه إلى وزارة الخارجية التركية، تقلّد مناصب متعددة في أفغانستان والسعودية وبولندا والأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ثم مثّل تركيا لدى منظمة التعاون الإسلامي..هذه الخبرات المتراكمة جعلته يفهم جيدًا طبيعة الشرق الأوسط، وتوازنات المنطقة، والخلفيات الثقافية للشعوب العربية، وهو ما مكّنه من قراءة المشهد المصري بدقة، والتفاعل معه بوعي واقعية واحترام.

ويدرك شن أن العلاقات المصرية - التركية ليست مجرد علاقة بين دولتين، بل هي تاريخ يمتد إلى قرون، وتداخل ثقافي وسياسي واجتماعي عميق، وبناءً على ذلك، حرص على أن يكون خطابه دائمًا قائمًا على نقطتين:

الماضي ليس عبئًا، بل قاعدة يمكن البناء عليها.

المستقبل لا بد أن يكون قائمًا على المصالح المشتركة.

وبفضل هذه المقاربة، أصبح من الواضح أن العلاقات بين القاهرة وأنقرة تسير باتجاه الاستقرار، سواء في الملفات الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية، مع وجود رغبة حقيقية لدى الطرفين للاستفادة من هذا التقارب.

ويمكن القول إن السفير التركي صالح موطلو شن نجح في فترة وجيزة في تحويل العلاقات المصرية - التركية إلى نموذج للتقارب المدروس والمتدرج، القائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، فقد أعاد بناء قنوات التواصل، وأحيا الشراكة الاقتصادية، ودعم الروابط الثقافية بما جعل الدبلوماسية تتجاوز حدود المكاتب الرسمية إلى فضاء أوسع من التأثير.

ومع استمرار هذا النهج، تبدو العلاقات المصرية - التركية في طريقها لتصبح واحدة من أهم شراكات المنطقة خلال السنوات المقبلة، بفضل جهود دبلوماسي آمن بالحوار والتعاون، وعمل بصمت وفاعلية لصياغة صفحة جديدة بين بلدين محوريين في الشرق الأوسط.

ولم يقتصر التقارب على التبادل التجاري فحسب، بل امتد إلى توسع الشركات التركية العاملة في مصر، وعودة الاهتمام بالاستثمار المباشر. وتشير التقديرات الاقتصادية إلى وجود آلاف الشركات التركية المسجلة في مصر بقطاعات متنوعة، فيما تعمل الحكومة المصرية على تسهيل توسع الشركات العاملة بالفعل وجذب استثمارات صناعية جديدة.

و تشمل هذه الاستثمارات مجالات: المنسوجات والملابس الجاهزة.

الصناعات الغذائية.. والصناعات الهندسية والمعدنية.. واللوجستيات وسلاسل الإمداد.

وتتراوح الخطط الاستثمارية التركية الجديدة في مصر بين إنشاء مصانع جديدة، وتوسعات في خطوط الإنتاج الحالية، إضافة إلى شراكات تصنيع موجهة للتصدير نحو أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا.

وإحدى علامات التحسن أيضًا هي الارتفاع الملحوظ في عدد السائحين بين البلدين.. فقد زار مصر نحو 230  ألف سائح تركي في عام 2024، وهو أعلى رقم يتم تسجيله خلال عشر سنوات.. كما تضاعفت أعداد السائحين المصريين إلى تركيا بفضل رحلات الطيران المباشر وتسهيلات الدخول، ما أعاد الحياة للمسار السياحي بين البلدين وشجّع على تواصل شعبي مباشر.

وهذا النشاط السياحي لا يحمل قيمة اقتصادية فحسب، بل يرسخ أيضًا تقاربًا مجتمعيًا وثقافيًا يعزز فرص التعاون على المدى البعيد.

وتتجه القاهرة وأنقرة اليوم إلى توسيع إطار التعاون إلى مستويات أعلى، إذ أعلن الجانبان رغبتهما في رفع حجم التبادل التجاري إلى 15  مليار دولار خلال السنوات المقبلة وهذا الهدف ليس بعيدًا عن التحقيق، خاصة في ظل:

توسع الشركات التركية العاملة في السوق المصرية، وارتفاع الطلب المصري على المنتجات الصناعية التركية، وزيادة صادرات مصر من المنتجات الزراعية والكيماوية، والتعاون اللوجستي المتوقع بين موانئ البلدين.

كما يجري العمل على معالجة بعض التحديات الفنية، مثل قواعد المنشأ، وإزالة العوائق غير الجمركية، وتحسين انسياب حركة الشحن بين الموانئ، ما سيضاعف فرص نمو التجارة.

وهناك قطاعات مرشحة لتحقيق قفزات كبيرة في التعاون الثنائي خلال 2025–2026، أبرزها:

-              الطاقة المتجددة

تركيا تمتلك خبرة واسعة في تطوير محطات الرياح والطاقة الشمسية، فيما تنفذ مصر واحدة من أكبر خطط التوسع في الطاقة المتجددة في المنطقة.. والجمع بين خبرة تركيا وسوق مصر الواعدة يمثل فرصة ضخمة للطرفين.

-              الصناعات الثقيلة

تعمل الشركات التركية في مجالات متعددة داخل مصر، لكن السنوات المقبلة قد تشهد دخول استثمارات أكبر في الصناعات الثقيلة والمكونات الصناعية عالية القيمة.

-              النقل واللوجستيات

ربط الموانئ المصرية والتركية بآليات أكثر كفاءة يختصر زمن الشحن بين أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، ويحوّل البلدين إلى محورين مهمين في سلاسل الإمداد الإقليمية.

-              التكنولوجيا والصناعات الرقمية

بدأت شركات تركية تعمل في التكنولوجيا المالية والبرمجيات دراسة دخول السوق المصرية، مستفيدة من البيئة الاستثمارية المحسّنة ووجود سوق شابة ديناميكية.

ولا يمكن قراءة ما تحقق دون الإشارة إلى السياسة الهادئة التي تبناها الطرفان في إدارة العلاقات، حيث تم تجاوز سنوات الخلاف والتركيز على الملفات القابلة للبناء.. كما لعب السفير التركي في القاهرة دورًا بارزًا في تنشيط العلاقات عبر دبلوماسية مفتوحة تعتمد على التواصل المستمر مع مؤسسات الدولة المصرية، ورجال الأعمال، والمجتمع المدني، وهو ما أعطى زخمًا إضافيًا لمسار التقارب.

واليوم يمكن القول إن العلاقات المصرية التركية دخلت مرحلة جديدة تتسم بالعقلانية والبراغماتية.. فالأرقام الاقتصادية، من التجارة إلى الاستثمار والسياحة، كلها تشير إلى أنّ البلدين في طريقهما لبناء شراكة إقليمية قوية ذات عمق اقتصادي حقيقي.

وفي ظل توازنات دولية متغيرّة، واحتياجات تنموية واسعة في البلدين، فإن الشراكة المصرية-التركية ليست مجرد توجه سياسي، بل خيار استراتيجي يحقق مكاسب مباشرة للجانبين. وإذا استمرت وتيرة العمل بهذا الشكل المنتظم، فإن السنوات القادمة قد تشهد انتقال العلاقات إلى مستويات غير مسبوقة، تجعل من البلدين نموذجًا ناجحًا للتقارب الإقليمي القائم على المصالح المشتركة والتنمية المتبادلة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق