جلباب أبى.. والمتحف

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بسبب «الترند» المرتبط بالجلابية المصرية وعراقتها، ولجوء الكثيرين من المشاهير للظهور وهم يرتدونها فى بلدانهم بالريف والصعيد، استدعت ذاكرتى مشهدًا أراه تفاعلًا إيجابيًا. هو مفيد أكثر من نشر صورة واحدة لى بالجلابية.. وينتهى الأمر. هى ذكرى غالية جدًا على نفسى وقلبى، ذكرى عمرها ٥٢ عامًا.. ستأذنكم فى التطرق لها فى سطور هذا المقال.

وأنا عادة لا أتفاعل مع الموضوعات والعناوين الساخنة التى تفرض نفسها على الساحة، فى وسائل الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعى.. ثم تختفى بالتدريج. غالبها يكون سطحيًا وطارئًا وينطفئ بسرعة، والقليل من العناوين يكون عبارة عن مفتاح لأفكار وقضايا أكبر.

مشهد الرجل المصرى وهو يزور المتحف المصرى الجديد بالجلابية المصرية وإلى جواره زوجته فى زى تقليدى محتشم شغل الرأى العام لأيام طويلة. أراه طبيعيًا جدًا، أعادنى إلى ذكريات أول زيارة لى للقاهرة فى شتاء عام ١٩٧٣، وربما فى بدايات عام ١٩٧٤. كانت رحلة مهمة، نظمها مركز شباب قريتنا «المقاطعة» التابعة للدقهلية، وربما اشترك فى تنظيمها لجنة الاتحاد الاشتراكى بالقرية. كنا فى أجواء الانتصار العظيم على إسرائيل، وهناك فى كل بيت مصرى فى العاصمة والدلتا والصعيد فرحة جماعية لا سقف لها. طعم البهجة الموجودة فى العاصمة والمدن الرئيسية هو بنفس المذاق الطيب الموجود فى القرى والنجوع شمالًا وجنوبًا. سقط آلاف الشهداء على أرض سيناء أو بالقرب من الدفرسوار أو دفاعًا عن السويس، لم يخلُ بيت من شهيد، لكن رغم ذلك كانت هناك فرحة عارمة بالنصر على إسرائيل وعبور الجيش لسيناء وتحرير جزء عظيم منها.. تمهيدًا لاستعادتها كاملة من الاحتلال المغتصب. 

البسطاء من الناس، وكذلك المثقفون، كانوا يعيشون فى مرارة هزيمة يونيو ١٩٦٧ وما حدث فيها من مهزلة عسكرية على الأرض، وكذب وتضليل إعلامى بشأن بيانات الحرب فى اليوم الأول لها. حرب أكتوبر أعادت المصداقية للقيادة العليا وللجيش وللإعلام المصرى. 

بعد انتهاء الحرب مباشرة، سعت القوات المسلحة لتأكيد انتصارها الساحق وحصولها على غنائم كثيرة من الجيش الإسرائيلى الذى انسحب تاركًا سلاحه وعتاده. كما أن المواجهات العسكرية المباشرة أدت إلى أن يستولى جيشنا على المئات من الدبابات والمدافع والصواريخ بعد تدميرها تمامًا خلال تلك المواجهات. أسقطنا عشرات الطائرات، بعضها فوق سماء سيناء، بفضل حائط الصواريخ والمدافع المضادة للطائرات، وغالبها فى يوم المواجهة الجوية الحاسمة، ١٤ أكتوبر ١٩٧٣، التى باتت تُعرف بمعركة المنصورة الجوية. هذا اليوم صار عيدًا سنويًا للقوات الجوية.

جمّعت القوات المسلحة آلاف القطع من العتاد والسلاح الإسرائيلى فى معرض ضخم، أطلقت عليه «معرض الغنائم»، وأُقيم فى أرض المعارض القديمة، وكان مقرها حينئذٍ فى منطقة الجزيرة، وتحديدًا فى المكان الذى تشغله دار الأوبرا حاليًا.

شجعت الدولة، من خلال التنظيمات الشعبية المختلفة، وما أكثرها فى ذلك الوقت، على أن يزور المصريون هذا المعرض ليتأكدوا بأنفسهم من حجم الانتصار وبسالة جنودنا وضخامة المعركة وقوة العدو الإسرائيلى الذى هزمناه.

كنت فى الثامنة من عمرى فى ذلك الوقت، ذهبت رفقة أبى، رحمة الله عليه. كان هناك خمسة أو ستة أطفال مثلى رفقة آبائهم أيضًا. تفاصيل الرحلة للقاهرة، التى استخدمنا فيها قطار الدرجة الثالثة العتيق، لا أنساها. متعة عالقة حتى الآن فى ذاكرتى، ترتبط بخيال طفل ولد وعاش فى قرية بسيطة وها هو قريب من لمس أحلامه برؤية القاهرة بمعالمها وبهائها وصخبها. 

رغم المشقة وبرودة الطقس والأمطار الغزيرة والوحل فى بلدنا وفى الطريق والقاهرة، وصلنا بسلام. كانت هناك دور ضيافة مخصصة للاستضافة. لا أتذكر المكان جيدًا، الذى أتذكره أن المشرفين على رحلتنا قرروا أن نزور المتحف المصرى بالتحرير أولًا قبل الوصول لمعرض الغنائم.

المشهد الخالد فى ذاكرتى هو لأبى ونحو خمسين من أهلى وبلدياتى بالجلاليب البلدية الجميلة وهم يدخلون المتحف ويستمعون للشرح من المرشدين السياحيين هناك، ويلتقط لهم مصور، كان معنا، صورًا تذكارية بفيلم أبيض وأسود. كل أعضاء الرحلة كانوا يرتدون الجلاليب فيما عدا الموظفين مشرفى الرحلة والصغار من طلاب المدارس. 

عدتُ للصور التى أحتفظ بها أنا وعدد من أصدقائى داخل المتحف أو داخل «معرض الغنائم». بعض الصور فى المعرض كانت داخل دبابة إسرائيلية تعرضت لطلقة «آر بى جى» من قناص مصرى جرىء. صورة أخرى تجمع العشرات من بلدياتى بالجلاليب الجميلة حول طائرات إسرائيلية فى أرجاء المعرض.

الجلباب البلدى ليس منظرًا يعيبنا أبدًا. ينبغى عدم الوقوف عند المتجاوزين بشأنه أو التقليل من شأن المعتزين بارتدائه. هو الأصل ثم جاءت من بعده الملابس الإفرنجية على اختلاف أشكالها وتنويعاتها. هذا الاعتزاز ينبغى أن يرقى لدرجة تمسك دول الخليج العربى بالدشداشة والغترة والعقال. ينبغى احترام أصحاب الجلباب فى دور الأوبرا والمسارح والفنادق والمطاعم والمتاحف. هناك تمييز ضدهم فى بعض الأماكن. والذين استغربوا وجود مصرى أصيل بملابسه الأصلية فى المتحف الكبير انطلقوا من هذه الحالة الغريبة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق