الفاشر تصرخ: لا تقتلوا الوطن

البوابة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في الفاشراليوم، لا شيء يشبه الحياة، المدينة التي كانت يوماً قلب دارفور النابض بالتجارة والعلاقات والدفء الإنساني، تحولت إلى لوحة من الرماد، شوارعها التي كانت تضجّ بالأطفال والعابرين صارت خالية إلا من آثار الدمار، والمنازل التي كانت تحتضن العائلة صارت أطلالاً تخفي تحتها جثثاً لا تجد من يدفنها.. في الفاشر، القاتل والمقتول أبناء وطن واحد، يجمعهم الدم وتفرقهم البنادق، يصرخون بلغة واحدة لكنهم لا يسمعون بعضهم، هناك في قلب السودان، تتجسد المأساة بأبشع صورها حرب لا نصر فيها إلا للخراب، ولا خاسر فيها إلا الإنسان.

 لم تعد الفاشر مجرد مدينة منكوبة، صارت جرحاً في ضمير الأمة، وصفعة على وجه الإنسانية، كل طلقة تنطلق من هناك تقتل فكرة الوطن، وكل منزل تشتعل النار فيه، يطفئ شمعة من ذاكرة السودان الجميل، إنها ليست حرباً ضد عدو خارجي، بل ضد الذات، مأساة الفاشر تكشف انهيار القيمة قبل انهيار الدولة، وانتصار منطق الميليشيا على منطق المؤسسة، حيث تحل الفوضى محل النظام، وتصبح الراية الشخصية بديلاً عن علم الوطن.

وطن عريق وشعب كريم

الفاشر اليوم تختصر قصة السودان كله.. وطن عريق تفتته الأهواء، وشعب كريم يتم دفعه إلى صراع لا يفهمه ولا يريده، لم تعد الأسباب تهم أحداً، فالدم حين يسيل يغرق كل المبررات، وفي شوارع الفاشر يقتل الأمل، وفي وجوه أهلها ترتسم أسئلة لا جواب لها من نحن؟ ولماذا نحارب أنفسنا؟ وإلى متى؟.

لقد أثبتت هذه الحرب أن الميليشيا مهما تزينت بالشعارات لا يمكن أن تبني دولة، وأن الوطن لا يقوم على ولاءات صغيرة، بل على مؤسسات قوية تمسك بتلابيب السيادة وتضمن العدالة. الدولة ممثلة في جيشها الوطني، هي وحدها القادرة على حفظ السودان من التلاشي، لأنها تملك شرعية الوجود ومسؤولية البقاء، أما حين تختزل السلطة في بندقية خارج القانون، فإن النتيجة هي ما نراه الآن في الفاشر: مدن محاصرة، ومستشفيات مدمرة، وشعب يبحث عن ملجأ من وطنه.

لكن وسط هذا السواد، تظل هناك يد تمتد من الشمال بحكمة وصبر وأمل، تحاول أن تطفئ النار قبل أن تلتهم كل شيء، تلك اليد هي مصر، مصر التي لم تنظر إلى الحرب السودانية كحدث بعيد، بل كجرح في الجسد العربي والإفريقي معاً، وتراه كارثة إنسانية تستحق أن يواجهها الجميع بالرحمة لا بالتجاهل، منذ اللحظة الأولى لتصاعد الأحداث كانت القاهرة حاضرة، تنادي بالحوار لا بالسلاح، وتؤكد أن الحل في العودة إلى الدولة، لا في الانقسام تحت رايات متناحرة.

الدبلوماسية المصرية صوت العقل

تحركت الدبلوماسية المصرية على أكثر من مسار، فاستضافت الاجتماعات بين القوى السودانية المختلفة، ودفعت باتجاه تثبيت وقف إطلاق النار، ودعت المجتمع الدولي لتحمل مسؤوليته، كانت مصر الصوت العاقل في بحر من الغضب، تذكّر الجميع أن السودان ليس ساحة لتصفية الحسابات بل وطن يجب أن يكون لأهله. ولأنها تعرف أن كل رصاصة تنطلق من هناك يمكن أن ترتد على المنطقة كلها، فقد جعلت من الأزمة السودانية أولوية في تحركاتها السياسية.

لكن الدور المصري لم يتوقف عند السياسة، بل امتد إلى الميدان الإنساني، حيث تحولت الحدود الجنوبية إلى شريان حياة، فبين وادي حلفا وأسوان، كان اللاجئون السودانيون يعبرون حاملين ما تبقى من حياتهم في أكياس صغيرة وقلوب مثقلة بالخوف، ليجدوا على الجانب الآخر الأيادي التي تمتد بالعون لا بالسؤال، فتحت مصر معابرها رغم الظروف الاقتصادية الصعبة، واستقبلت مئات الآلاف من السودانيين دون أن تغلق الباب أو تفرض قيوداً قاسية كما فعلت دول أخرى.

قدمت الدولة المصرية ما استطاعت من دعم وإيواء، فتحت المدارس لأطفال السودان، والمستشفيات لعلاج جرحاهم، وسمحت لهم بالعمل والدراسة والعيش بكرامة، ولم يكن ذلك تفضلاً بل امتداداً لعلاقة أخوة ضاربة في التاريخ، بين شعبين جمعهما النيل والمصير، اللاجئ السوداني في مصر لم يُعامل كغريب، بل كجارٍ عاد إلى بيت يعرفه، في شوارع القاهرة والإسكندرية وأسوان ترى السودانيين يعيشون ويعملون ويواصلون الحياة في أمن نسبي وسط عالم احترق حولهم، وهذا في ذاته رسالة إنسانية عميقة.

وفي الوقت الذي يغرق فيه العالم في صمته، تواصل القاهرة تحركاتها في المنظمات الإقليمية والدولية، داعية إلى وقف دائم للقتال، وإلى إطلاق عملية سياسية شاملة تضمن وحدة السودان واستعادة مؤسساته، تدرك مصر أن انهيار الدولة السودانية لن يكون خسارة لشعب واحد، بل تهديداً للأمن الإقليمي بأسره، ولذلك كانت وما زالت حريصة على بقاء الجيش السوداني قوياً متماسكاً، لأنه الركيزة الأخيرة لوحدة التراب الوطني.

مواجهة الصمت الدولى 

في القاهرة تصاغ رسائل الصبر، وفي الفاشر تكتب مآسي الصمت الدولي، بين المدينتين يمتد جسر من المسؤولية والرحمة، جسر صنعته مصر بإصرارها على أن تبقى إلى جوار السودان في محنته، لا كمراقب بل كأخ يداوي الجرح بيده، لقد تحملت مصر عبء الأزمة بكل شجاعة، رغم التحديات الاقتصادية التي تمر بها، لأنها تؤمن أن مصيرها ومصير السودان واحد، وأن النيل الذي يجري بينهما لا يمكن أن يفصل بحدود ولا بسلاح.

وإذ نكتب اليوم عن الفاشر، فإننا نكتب عن كل السودان الذي يستحق الحياة، عن وطنٍ أنهكته الحروب ويحتاج إلى من يذكره بأنه ما زال قادراً على النهوض، الحرب لن تبني وطناً، والميليشيا لن تخلق عدلاً، والرصاص لن ينبت سلاماً، وحدها الدولة القوية العادلة قادرة على جمع السلاح وتضميد الجراح وإعادة الروح إلى المدن التي فقدت بريقها.

من الفاشر إلى الخرطوم إلى القاهرة، ترتفع صرخة واحدة أوقفوا الحرب، أوقفوا نزيف الأخوة قبل أن يتحول إلى نسيان دائم، فالسودان لا يستحق أن يموت على يد أبنائه، والعالم لا يملك رفاهية السكوت أكثر من ذلك، إن الفاشر اليوم ليست مأساة مدينة، بل امتحان لإنسانيتنا جميعاً، ومصر، بما قامت به وما تزال تقوم به، أثبتت أن الأخوة ليست شعاراً بل مسؤولية، وأن الرحمة يمكن أن تكون فعلاً سياسياً يغيّر مصير أمة بأكملها.

فلتكن هذه اللحظة نداءً أخيراً أعيدوا للسودان دولته، أعيدوا للجيش هيبته، أعيدوا للإنسان مكانه، لا تقتلوا الوطن مرتين، مرة بالرصاص، ومرة بالصمت.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق