شهدت أفريقيا خلال العقدين الماضيين تحولات جذرية في خريطة الجماعات المتطرفة، كان أبرزها إعادة انتشار تنظيم القاعدة الإرهابي وتكيفه مع طبيعة الصراعات المحلية في القارة. وبالتزامن مع تراجع التنظيم المركزي في أفغانستان وباكستان، أصبحت أفريقيا مركز الثقل الجديد للنشاط القاعدي، بعدما نجحت فروعه في بناء شبكات محلية قوية وتطوير نموذج عمل مختلف عن جيل القاعدة الأول. وخلال هذا التقرير نقدم قراءة تحليلية لمسار التطور، وأسباب التمدد، ومظاهر القوة الجديدة للتنظيم.
كيف انتقلت القاعدة من أطراف أفريقيا إلى مركزها؟
بدأ الحضور القاعدي في أفريقيا بشكل متقطع في التسعينيات عبر شبكات دعم لوجستي في شرق أفريقيا وشمالها، لكنه لم يتحول إلى قوة منظمة إلا بعد 2011، مع انهيار ليبيا وتراجع قبضة الحكومات على الأطراف الحدودية. فغياب الدولة في مناطق شاسعة من الساحل، واتساع الصراعات القبلية، مع وجود تجارة السلاح العابرة للحدود، خلق بيئة مثالية لصعود التنظيم.
أدركت القاعدة سريعًا أن القارة ليست مجرد ملاذ، بل فرصة استراتيجية لتعويض خسائرها في الشرق الأوسط. ولذلك منح التنظيم فروعه في أفريقيا استقلالية كبيرة، سمحت لها بتطوير تكتيكات محلية خصوصية تتناسب مع طبيعة المجتمعات في الساحل والقرن الأفريقي.
الساحل الأفريقي
تُعد منطقة الساحل الحاضنة الأكثر نشاطًا لفروع القاعدة. فمنذ تأسيس «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» عام 2017 كتحالف بين جماعات محلية، اكتسب التنظيم قدرة فريدة على بناء نفوذ اجتماعي يتجاوز مجرد العمليات المسلحة. اتخذت الجماعة نهجًا يقوم على الإدارة المرنة، فبدلًا من فرض أفكارها بالقوة كما يفعل داعش، فضلت القاعدة التغلغل التدريجي داخل المجتمعات عبر تقديم خدمات وفرض أنماط حكم بديلة في المناطق التي تراجعت فيها سلطة الدولة.
وتزامن ذلك مع انسحاب القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو، ما منح التنظيم مساحة أكبر للتحرك وشن هجمات نوعية ضد القوات الحكومية والميليشيات المحلية. أضف إلى ذلك ارتباط الجماعة بشبكات تهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية، وهو ما وفر لها مصادر تمويل مستقرة، مكّنها من الرسيخ وجود طويل الأمد.
حركة الشباب الصومالية الذراع الأكثر استقرارًا
في شرق أفريقيا، تمكنت «حركة الشباب» من الحفاظ على موقعها كأقوى أفرع القاعدة وأكثرها تنظيمًا. والحركة لا تعمل فقط كجماعة مسلحة، بل ككيان ويفرض الضرائب، ويأمن طرق التجارة، ويدير محاكم شرعية، ويملك جهازًا استخباراتيًا فعالًا.
وعلى الرغم من الغارات الأميركية المتكررة، فإن الحركة طورت أساليب مواجهة مرنة. فاعتمدت على الهجمات النوعية الخاطفة والعمليات الانتحارية، مع الحفاظ على وجودها في الريف كقوة محلية يصعب استئصالها.
وتستغل الحركة الانقسامات السياسية بين الحكومة الفيدرالية والأقاليم الصومالية، مما يمنحها هامش مناورة كبيرًا وإمكانية للتجنيد المستمر.
تراجع نسبي في شمال أفريقيا
شهد شمال أفريقيا تراجعًا في النشاط العلني للقاعدة مقارنة بذروته في العقد الماضي. فإن الضربات الأمنية في الجزائر، والحراسة المشددة على الحدود التونسية والليبية، ساهمت في تقليص نفوذ «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».
لكن التراجع لا يعني النهاية، فالتنظيم لا يزال يمتلك خطوط تهريب ممتدة من الجنوب الليبي نحو الساحل، ويعتمد على خلايا صغيرة قادرة على تنفيذ هجمات محدودة. والأهم أن التنظيم بات ينظر إلى شمال أفريقيا كمنطقة دعم لوجستي وارتكاز وليس كساحة قتال رئيسية، خصوصًا بعد صعود فروعه في الساحل والقرن الأفريقي.
المنافسة مع داعش وقود إضافي للانتشار
تفاقمت المنافسة بين القاعدة وداعش في أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، خاصة في الكونغو الديمقراطية وموزمبيق وتنزانيا. فكل طرف يسعى لإثبات تفوقه وجذب المجندين عبر تكثيف العمليات وإظهار قدرته على السيطرة على الأرض. هذه المنافسة منحت القاعدة دافعًا إضافيًا لتحسين تكتيكاتها والتمدد في مناطق جديدة، مستفيدة من ميل المجتمعات المحلية غالبًا للتعامل مع القاعدة التي تُعد أقل تطرفًا من داعش.
قوة القاعدة في أفريقيا
ولا تقتصر قوة القاعدة على الاندماج المجتمعي فحسب، بل تمتد إلى مهارتها في فهم الهويات المحلية واستغلالها. فالتنظيم يدرك حساسية الانتماءات القبلية في الساحل، ويعرف أن الصراع بين العراقيات خاصة الفولاني والطارق يمثل نافذة للتجنيد والاستقطاب. لذلك يقدم نفسه كوسيط أحيانًا، وكممثل لمظلومية محلية أحيانًا أخرى، وهو ما يمنحه شرعية مبطنة لا تتوفر لتنظيمات أخرى أكثر جمودًا.
كذلك طورت فروع القاعدة في أفريقيا أسلوبًا خاصًا في بناء اقتصاد حرب مستدام. فهي لا تعتمد فقط على تهريب السلاح أو جباية الضرائب، بل وسعت نشاطها إلى التحكم في طرق التجارة، وتأمين مسارات تهريب الذهب والمعادن، وحتى فرض رسوم مرور على الشاحنات في مناطق نفوذها.
ويُضاف إلى ذلك ميل القاعدة إلى تجنب المواجهة المباشرة مع الجيوش الكبيرة، والتركيز بدلًا من ذلك على استنزاف الخصوم عبر الكمائن والهجمات السريعة وقطع خطوط الإمداد. هذا التكتيك جعل ضربها أكثر صعوبة، خاصة في المناطق الشاسعة التي تفتقر لوجود أمني فعال. ومع معرفة التنظيم الدقيقة بطبيعة الأرض والتضاريس، أصبح يمتلك أفضلية ميدانية لا تستطيع القوات الحكومية مجاراتها.
كما تستفيد القاعدة من ضعف الثقة بين السكان المحليين والحكومات. فحين يشعر المواطنون أن الدولة غائبة أو غير قادرة على توفير الأمن والخدمات، تمتلئ الفجوة ببدائل مثل القاعدة التي تقدم نظامًا بديلًا، منخفض الكفاءة لكنه قابل للحياة. وحين يصبح التنظيم جزءًا من الروتين اليومي للسكان من دفع الضرائب إلى التحكيم في النزاعات يترسخ وجوده بطريقة يصعب اقتلاعها بالقوة وحدها.
ومع اندماج التنظيم في السياق الاجتماعي، وقدرته على تقديم نفسه كفاعل محلي وليس كتنظيم أجنبي، استطاع أن يبني قاعدة نفوذ غير مرتبطة بشخصية قيادة معينة.
وهذا ما يجعله قادرًا على استئناف نشاطه بسرعة بعد مقتل قادته، بعكس داعش الذي يعتمد بدرجة أكبر على هرم قيادي واضح.










0 تعليق