الأحد 09/نوفمبر/2025 - 10:38 م 11/9/2025 10:38:54 PM
منذ حوالى ستة أشهر كتبتُ مقالا عن محنة مصر فى بعض نخبتها بعنوان (شهرة طاغية وثروة هائلة وجهلٌ مركب.. ثلاثى الهلاك الجديد). وكان ذلك بمناسبة سلسلة من المواقف والتصريحات الصادرة عن بعض أهل الفن فى مصر. ومع تجدد القضية - بإحدى التصريحات المنسوبة لأحد الممثلين المصريين خارج مصر - أجدنى مضطرا للعودة للحديث عن هذه المحنة المصرية.
(١)
ممثلٌ مصرى من نجوم الدراما التليفزيونية تم اختياره مؤخرا للتعيين فى موقع نيابى مصرى رفيع فاجأ المصريين مؤخرا بتصريحٍ مثير أدلى به خارج مصر أثناء تكريمه بإحدى الدول. أغضب التصريح جموعَ المصريين ورأوا به مغالطة وخطيئة كبرى تتنافى مع صحيح تاريخ مصر، كما رأه آخرون إهانة وطنية لا يجب أن تمر دون محاسبة. وأنا أراه تجسيدا حزينا لمحنة حقيقية تعيشها مصر مع بعض أفراد نخبتها، كما أراه نموذجا لخطأ متكرر من تجاه بعض مؤسسات الدولة فيما يخص عملية تجهيز هؤلاء الأفراد معرفيا قبل الدفع بهم لمواقع عامة تخرج بهم عن حدود تصنيفهم المهنى قبل هذا الدفع.
تبدأ محنة أحدهم حين يجتهد مهنيا حتى يصل للصف الأول ويصبح أحد نجوم مهنته، فتتسلط عليه الأضواء والشهرة وينهل من الثروة ويصبح شخصية عامة. يحدث هذا بشكل خاص فى مجالات الفن والرياضة والإعلام بشقيه المرئى والمقروء. قليلٌ منهم يدرك حقيقة وضعه الجديد فيبدأ فى العمل على تثقيف نفسه وإعدادها لكى يكون جديرا بملء هذه المساحة من الضوء والشهرة. والتثقيف هنا يتجاوز حدود الإطار المهنى ليقصد الثقافة العامة وتعلم اللغات الأجنبية وتلقى دروس فى التاريخ والسياسة والهوية الوطنية والفنون وعلم مخاطبة الجماهير فى الشأن العام. أى يخرج بنفسه عن إطار المحلية وإطار القالب المهنى لآفاق وسماوات الشخصية العامة. وأن صبح قادرا ومؤهلا لإدارة حوار سياسى أو ثقافى عام أمام الكاميرات دون الوقوع فى أخطاء معرفية ساذجة. ويصبح قادرا على تحديد مواقفه من الأحداث العامة بصفته شخصية مصرية عامة. والمثال المصرى الأقوى والأنجح لذلك هو محمد صلاح الذى يمكن أن يدرك أحدنا بسهولة مدى وحجم هذا التطوير الذاتى – كشخصية مصرية عامة - فى شخصيته عبر صعوده فى مجاله الرياضى.
(٢)
أما النماذج الفاشلة فهى كثيرة جدا فى مختلف المجالات وقد ذكرتُ بعضها فى المقال السابق المشار إليه.
ففى المجال الرياضى مثلا كانت هناك العديد من الفرص لأن يكون لمصر أكثر من محمد صلاح فى السنوات السابقة، لكن هذه الفرص أهدرها أصحابها بسبب توقف نمو وتطور الشخصية عند مستوى محدد ومحدود من الإدراك والوعى والإعداد..توقفت الشخصية عن حدٍ لا يتناسب مع حجم الشهرة والأضواء. وأكثر الأمثلة الصارخة لذلك هو اللاعب الذى استطاع الحصول على لقب هداف إحدى أهم الدوريات الاوروبية فى نصف موسمٍ مما فتح أمامه الطريق على مصراعيه لبلوغ ذروة العالمية، لكنه سقط سريعا سقوطا مشينا لعدم إدراكه طبيعة المرحلة التى كان على أعتابها.
وفى المجال الفنى حدث ولا حرج.. نجوم يمتلكون حضورا طاغيا ووجوها مصرية يمكنها أن تطرق أبواب العالمية لكنها أهدرت الفرص بصبيانية فى التفكير، وسقطت فى فتنة الشهرة والمال وتواضع المستوى العقلى فى التفكير والاختيار وفتنة الاستكبار عن التعلم.
وفى مجال الإعلام والصحافة نجد مستوى متردى من الإدراك انشغل بعضهم فيه بالقيام بأدوار سياسية وهمية بدلا من إعداد أنفسهم معرفيا لاستكمال كتابة تاريخ مصر الصحفى والإعلامى.
(٣)
إذا كانت المحنة فى هذه الحالات تنبع من تقصير فردى نابع من صاحب الموهبة الذى وجد نفسه فجأة فى الصف الأول، فإن تقصير المؤسسة – أى مؤسسة – فى القيام بهذا الإعداد لمن اصطفتهم لبعض المواقع العامة لا يمكن تجاهله. إن أى مؤسسة تملك القدرة – بطبيعة ومنطق الحال وبما تملكه من إمكانات وشرعية - على القيام بهذا الدور وإلزام هؤلاء المختارين بالخضوع لعملية الإعداد، مما يجعل سقوط أحدهم فى مثل هذه الأخطاء الساذجة مسؤلية مؤسسية بشكلٍ رئيسى.
بشكل عرضى شاهدت مؤخرا بطريقة فعلية كيف يتم إعداد كادر مهنى لتولى منصبا قياديا فى منشأة سياحية. تم ترقية أحدهم لتولى منصب مدير باخرة سياحية، وقبل توليه منصبه خضع لفترة إعداد عملى لعدة أسابيع فقط للتعلم من مديرين سابقين. معايشة كاملة وما يشبه كورسات مكثفة قبل منحه هذه الفرصة.
فهل اختيار شخصية فنية أو إعلامية للدفع بها لموقع مصرى رفيع أقل أهمية من تولى مدير منشأة خاصة لمنصبه؟
إذا كانت القيادة السياسية قد منحت موافقتها على تعيين بعض الأسماء لمواقع عامة، فلا بد أن تكون هناك مؤسسات أخرى من تمام مسؤليتها إعداد هذه الأسماء للقيام بهذا الدور.
ولا يجب أن يقتصر هذا الإعداد فقط على آليات إعدادهم للممارسة الإدارية، بل يجب أن يتخطى ذلك إلى التأهيل المعرفى من دروس تاريخية لدراسة تاريخ مصر، ودروس فى السياسة والدبلوماسية وأيضا فى علم (التصريح السياسى)، لأن هذا الفنان أو الصحفى الذى تم تعيينه فى مجلس نيابى مثلا أصبح مثله مثل الدبلوماسى المصرى حين يتحدث فى الشأن العام خاصة خارج مصر. فهو لم يعد يمثل نفسه.
الموضوع بسيط وواضح، وهو ما ينبغى أن يحدث بمجرد تصديق القيادة السياسية على مثل هذه القرارات. فيجب أن يكون هناك إلزام لهذه الاسماء بحضور دورة تثقيفية مكثفة لمدة أسبوعين مثلا. يقوم خلال هذه الفترة علماء تاريخ وسياسة وكوادر من وزراة الخارجية بتقديم وتلقين دروس فى تخصصاتهم لكل من تم منحه شرف هذا الاختيار.
من تمام هذا الإعداد أن يتعلم هؤلاء أنهم لم يعودوا ممثلين لأنفسهم – فى أى حديث عن الشأن المصرى العام – وإنما ممثلين لمصر. وأن يتعلموا منى يتحدثون ومتى يصمتون، وأن يكونوا ملمين بالمشهد المصرى العام، والرأى المصرى العام، وألا تصدر عنهم تصريحات تستفز هذا الرأى العام. أن يتم تعليمهم تاريخ مصر على الأقل فى القرن الماضى. وأن يتم تعليمهم معنى الهوية المصرية. وأن حرص مصر على بقاء علاقاتها مع أشقائها وجيرانها فى مستوى طيب لا يعنى مجاملة أى دولة على حساب تاريخ مصر أو هويتها أو تضحيات أبنائها.
(٤)
تصريح هذا الممثل جاء ساذجا ولا يتمتع بأى كياسة أو فطنة فضلا عن الجهل الشديد بتاريخ مصر فى سنوات حاسمة.
بدا الجهل صارخا وكاشفا أنه لم يقرأ كتابا تاريخيا واحدا عما حدث فى مصر فى الفترة من ٦٧ وحتى ٧٣م، لأنه لو قرأ لما تجرأ على التفوه بمثل هذه العبارات التى تقع تحت مسمى (جرأة الجهل)
لقد كتب السادات رحمه الله أوراقه عما حدث. وكتب كل قادة مصر من ساسة وعسكريين ومفكرين مذكراتهم عما حدث فى مصر، ومن حماها داخليا وخاض معركتها العسكرية، وهم فى الحالتين رجال مصر. قبول مصر لبعض المساهمات الرمزية من بعض الدول فى المعركة جاء بمبادرة كريمة منها لكى تهدى نصرها للجميع. ولا يعنى هذا أن يخرج أحدنا اليوم ليمنح آخرين - بسبب هذه المبادرة المصرية الكريمة - مواقفا لم تحدث ليطوق بها عنق مصر!
منذ متى يُترك ما سجله ووثقه من كانوا فى غرف العمليات العسكرية والمدنية ثم يؤخذ تاريخ مصر من جلسات السمر العائلية؟! وماذا عن هذا السيل من الإشاعات والإدعاءات المعاصرة التى تريد نزع النصر من رجاله؟!
على المؤسسات المصرية المعنية أن تأخذ من هذا الموقف درسا قويا لتصويب وضعٍ منقوص يخص بمن تم انتقاؤهم لتبوء بعض المواقع الرفيعة. ولأنْ تأتى متأخرا خيرٌ من ألا تأتى أبدا!
اجمعوهم فى أكاديمية مثل الأكاديمية الوطنية للتدريب وألزموهم بخوض واجتياز دورة تعليمية تثقيفية، ومن لن يجتازها بنجاح يتم استبعاده واستبداله بمن يستحق تمثيل مصر. علموهم تاريخ مصر وهويتها وفن الحديث السياسى قبل منحهم هذا الشرف!
(٥)
أعتقد ان بعض المؤسسات الإعلامية الخاصة فى حاجة أيضا إلى القيام بنفس الشىء. هل يعقل أن تكون كل مؤهلات شخصية إعلامية - لمنحها تقديم أهم برنامج سياسى على شاشة قناة شهيرة – هو مداخلة قامت بها سابقا للرد على إعلامى صهيونى؟! وأن يتم إعادة إذاعة برومو هذه المداخلة كل يوم وكأن تلك المداخلة تكفى وتغنى عن باقى متطلبات الموقع الإعلامى. ولم تكن المداخلة خاصة بشأن مصرى! وتحول برنامجها فى حلقاته الأولى – رغم أنه يحمل اسم عاصمة مصر – إلى برنامج غير مصرى!
نفس الإعلامية تقتنع - ولقد صرحت سابقا - بأن المليشيات التى استهدفت مصر سابقا هى مقاومة ضد الصهيونية!
وكان نعيها للمتحدث الإعلامى لهذه المليشيات مخجلا ومغضبا للمصريين، لأن هؤلاء المصريين يحتفظون لنفس الشخص بمقطعٍ مصور كان يتجرأ فيه على القوات المسلحة المصرية ويهددها لأنها قضت على أفراد من مليشياته التى اعتدت على مصر!
متى سيتم تمصير إعلام مصر وتوجيهه ناحية الهوية والشخصية المصرية، وتحريره من فكرة أن دور مصر يتلخص فى الدفاع عن قضايا إقليمية؟! بعض كبار إعلاميى مصر يحتاجون بالفعل إلى عملية تمصير للوعى والهوية الشخصية. إذا كنا نلوم فنانيين للسقوط فى هذا الفخ، فإننى أعتقد أن مجال الإعلام أحق باللوم!
فمرة نجد صحفيين يعرضون بمواقف مصر فى ذروة تهديد أرضها، ومرة يخرج علينا إعلامى معروف بحديثٍ ممجوج عن متنطعين يقيمون على أرض مصر دون حق، ومرة يتم انتقاء إعلاميين قضيتهم ليست مصر ليتصدروا تقديم برامج سياسية شهيرة فتتوارى فى تلك البرامج شخصية وقضايا مصر لصالح قضايا أخرى!
سقطة هذا الممثل غير مغتفرة وطنيا، لكنها تدق جرس إنذار للمؤسسات المصرية المعنية لإعادة النظر فى كيفية انتقاء وإعداد أفراد النخبة للدفع بهم إلى بعض المواقع الشرفية الرفيعة.
















0 تعليق