إعادة ضبط المصنع المصرى: العودة إلى الفطرة التى أنجبت الحضارة

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

السبت 08/نوفمبر/2025 - 10:07 م 11/8/2025 10:07:20 PM


تاريخ مصر الطويل ملىء بالدروس التى توضح أن صمود الأمم يعتمد على قدرتها على الحفاظ على قيمها الأساسية وضبط نفسها داخليًا قبل مواجهة التحديات الخارجية، من الغزوات القديمة إلى الاستعمار الحديث، ومن الثورات إلى التحولات الاجتماعية والسياسية، أثبتت مصر أن العودة إلى الفطرة الأصلية هى الأساس لاستعادة القدرة على البناء والتقدم.
غزا الهكسوس مصر الشرقية، إلا أن صمود المصريين بقيادة أحمس أعاد تنظيم الدولة واستعادة السيطرة، مما يوضح أن القيادة القوية والالتزام الجماعى قادران على إعادة ضبط المجتمع بعد أزمة، والفتح الإسلامى لم يُفرض بالقوة فحسب، بل استند إلى توافق الهوية والفطرة مع التغيير، ما جعل مصر قلب العروبة والإسلام، وبما يؤكد أن النهضة الحقيقية تعتمد على انسجام الشعب مع قيمه الأساسية.
فى العصور الحديثة، حاول الاستعمار البريطانى إعادة برمجة الهوية المصرية عبر التعليم والإعلام والاقتصاد، لكنه فشل أمام العمق الحضارى للفطرة المصرية، وهو درس مهم حول قوة الهوية فى مواجهة محاولات الطمس الثقافى، وثورة 1952 أعادت ترتيب السلطات لتحقيق العدالة الاجتماعية، فيما أعادت هزيمة 1967 ثم انتصار أكتوبر 1973 ضبط الانضباط والمواطنة ومفهوم الإرادة الوطنية، مؤكدة أن الأمة التى تتعلم من أخطائها وتعيد تنظيم طاقاتها تحقق النصر.
الدرس الأخلاقى من تاريخ الأمم الأخرى يوضح أن انهيار القيم والضمير المهنى يؤدى إلى تراجع المجتمعات رغم قوتها الاقتصادية أو العسكرية، أثينا عاصمة اليونان انتهت قديمًا حين انهارت الأخلاق العامة، والرومان رغم قوتهم العسكرية انهاروا نتيجة فساد المسئولين وتراجع الالتزام المجتمعى، بالمقابل، مصر عبر تاريخها أظهرت أن الالتزام بالضمير المهنى فى الطب والتعليم والهندسة كان عنصرًا أساسيًا للنجاح ونشر الخبرة، بينما ضعف الضمير اليوم يبرز الحاجة الملحة لإعادة ضبط المصنع الداخلى للأمة.
الحوار واحترام الاختلاف يمثلان عنصرًا آخر للنهضة، كما أظهرت التجارب التاريخية، فالإمبراطورية العثمانية فى فترات ازدهارها اعتمدت على قبول التنوع الدينى والعرقى لتحقيق الاستقرار، والنهضة الأوروبية قامت حين دمج النقد والفكر الحر ضمن المؤسسات المجتمعية، ومصر اليوم بحاجة إلى إعادة ضبط الحوار الداخلى، بحيث يُحترم الرأى الآخر، ويركز النقاش على الفكرة لا على الصوت، مستفيدين من تجارب الأمم الناجحة.
العمل والانضباط هما عناصر حاسمة للنهضة، وبعد الحرب العالمية الثانية، أعادت اليابان بناء نفسها عبر العمل الجماعى والانضباط الفردى، مع احترام كل وظيفة مهما كانت صغيرة، ومشاريع مصر الحديثة مثل قناة السويس الجديدة أثبتت أن الالتزام والانضباط والإتقان تؤدى إلى نتائج ملموسة، وهو مثال على قدرة الأمة على إعادة ضبط المصنع الوطنى عبر العمل المنضبط.
الاهتمامات والهوية تلعب دورًا محوريًا فى تقدم الأمم أو تراجعها، والإمبراطورية البيزنطية ضعفت عندما انشغل قادتها بالترف الداخلى والسياسة الفوضوية، رغم قوتها العسكرية والثقافية، ومصر القديمة والمعاصرة أظهرت أن التركيز على التعلم، والإنتاج، والالتزام بالقيم يولد النهضة، بينما الانشغال بالملذات والتفاهات والمظاهر يؤدى إلى ضعف الأداء العام.
المرحلة الراهنة فى مصر تبرز أهمية ضرورة إعادة ضبط المصنع المصرى، من خلال إعادة ضبط قيم العمل والهوية والضمير أكثر من أى وقت مضى، والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والضغط التكنولوجى والثقافى من وسائل التواصل والاهتمامات التافهة، تهدد المجتمع بفقدان مركزه الحضارى ومبادئه الأساسية، وإذا خسر المصرى قيمة العمل والاجتهاد والتحدى، وإذا ابتعد عن هويته وجذوره، وإذا اكتفى بالمظاهر الترفيهية التافهة، فإنه يخاطر بخسارة كل شىء: النمو الاقتصادى، الفهم الوطنى، روح المبادرة، وحتى قدرة الدولة على مواجهة التحديات الكبرى.
غياب الانضباط المهنى يضعف المؤسسات، وتراجع الحوار يضعف التلاحم الاجتماعى، وانحراف الاهتمامات يفرغ العقول من التفكير الاستراتيجى والإبداعى. 
كل هذه العوامل مجتمعة تشكل تهديدًا مباشرًا لاستمرار مصر كأمة قادرة على البناء والتحول، وتعيدنا إلى نقطة البداية إذا لم يتم اتخاذ خطوات تصحيحية.
الحل يتطلب مشروعًا قوميًّا أو فكرية وطنية واضحة، تبنى على صخرة الثوابت المصرية، وتصحح كل السلبيات التى تراكمت عبر العقود، وهذا المشروع يشمل إعادة ضبط القيم الأخلاقية والضمير المهنى من خلال مؤسسات التعليم والعمل والإعلام والثقافة، بحيث تصبح المسئولية والإتقان معيارًا لكل عمل مهما كان موقعه.
ثم إعادة ضبط الحوار واحترام الآخر، عبر تعزيز ثقافة النقاش العقلانى والوعى المدنى، وربط الحقوق بالواجبات، بالإضافة إلى تعزيز مفهوم العمل والإنجاز كقيمة وطنية، لا مجرد وسيلة للرزق، مع التأكيد على أن النجاح الجماعى أهم من المكاسب الفردية العابرة.
نحتاج أيضًا إلى تركيز الاهتمامات على العلم والإبداع والمعرفة، مع الحفاظ على الترفيه باعتدال، لضمان عقول واعية قادرة على التخطيط والتجديد، وتثبيت الهوية الوطنية عبر التعليم والتاريخ والثقافة، بحيث تصبح الفطرة المصرية الأصلية قاعدة لكل مشروع تنموى مستقبلى.
هذا المشروع القومى هو إعادة تشغيل المصنع المصرى على نسخته الأصلية، مع تصحيح الانحرافات وإعادة ترتيب الأولويات، بما يضمن أن المستقبل سيكون نتاجًا للوعى والعمل والضمير، وليس للصدف أو المظاهر العابرة.
 

ads
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق