في زمن تتراجع فيه عادة القراءة أمام طوفان المحتوى السريع، تبرز مبادرة الكنيسة الأرثوذكسية بقيادة البابا تواضروس الثاني بعنوان "اقرأ لتعيش" كدعوة لإعادة اكتشاف قيمة الكلمة والمعرفة، ليس فقط كترف فكري، بل كأسلوب حياة يثري العقل والروح معًا. فالمشروع الذي أطلقته الكنيسة يستهدف إعادة إحياء العلاقة بين الإنسان والكتاب، باعتبار القراءة وسيلة للنضج والتفكير والتربية الروحية والاجتماعية داخل المجتمع الكنسي.
جاءت المبادرة امتدادًا لتوجه ثقافي متكامل داخل الكنيسة، التي أولت اهتمامًا خاصًا بالمكتبات والتعليم، بدءًا من المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي ومكتبته العامة التي تحتوي على آلاف الكتب الورقية والإلكترونية، وصولًا إلى المكتبة البابوية المركزية في دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، التي افتتحها البابا بنفسه ووصفها بأنها "وجه الكنيسة نحو العالم". تلك الخلفية جعلت من مشروع "اقرأ لتعيش" تطورًا طبيعيًا في مسار طويل من الاهتمام بالمعرفة كمصدر للبناء الروحي والفكري.
المشروع يسعى إلى غرس عادة القراءة في نفوس الشباب، وربطها بمسؤوليتهم تجاه أنفسهم ومجتمعهم، فالقراءة هنا ليست نشاطًا جانبيًا بل مدخلًا لاكتساب الحكمة والقيادة، وهو ما عبّر عنه البابا تواضروس في أكثر من مناسبة حين أكد أن القراءة هي الطريق إلى حياة أعمق وأكثر وعيًا. ومن خلال مبادرات مثل "شبابنا يقرأ"، تحوّل الشعار إلى ممارسة فعلية، حيث يتم اختيار كتاب كل شهر، يقرأه الشباب، ثم تُنظم مناقشات ومسابقات حوله، ويُكرم المشاركون بحضور البابا نفسه، في مشهد يعيد للقراءة أجواءها الجماعية والحميمية.
ترافق المبادرة أيضًا جهود واضحة لتوفير بنية تحتية للقراءة داخل الكنائس والأديرة، من مكتبات عامة وأركان معرفية ومساحات مخصصة للقراءة والنقاش. كما يجري العمل على ربط تلك المكتبات إلكترونيًا لتبادل الكتب والموارد، بما يجعل القراءة متاحة وسهلة الوصول في مختلف أنحاء مصر. كذلك، تُقام ورش عمل للأطفال، وأنشطة ثقافية متنوعة تعرّفهم بقيمة الكلمة منذ الصغر، لتنشئة جيل يقرأ ويفكر ويناقش.
المكتبة البابوية المركزية التي دشنتها الكنيسة تمثل إحدى أبرز ثمار هذا التوجه، إذ تعد من أكبر المكتبات القبطية في العالم، وتضم مؤلفات نادرة في اللاهوت والتاريخ واللغة والفنون، إلى جانب كتب حديثة في مجالات الفكر والثقافة العامة، ما يجعلها صرحًا معرفيًا يعكس وجه الكنيسة كمؤسسة روحية وثقافية في الوقت ذاته.
ورغم الزخم الذي أحدثه المشروع، إلا أن التحدي الحقيقي يكمن في تحويل القراءة إلى سلوك دائم داخل المجتمع الكنسي. فوسط هيمنة الشاشات وتراجع الانتباه لدى الأجيال الجديدة، تظل المعركة مع الفكر السريع والإيقاع السطحي قائمة، وهو ما تحاول الكنيسة مواجهته بأساليب جديدة تجمع بين الوسائط الرقمية وروح الكتاب الورقي.
في المقابل، يحمل المشروع فرصًا كبيرة لتعزيز حضور الكنيسة كمركز للثقافة والتنوير في المجتمع المصري، فحين تُغرس عادة القراءة في أوساط الشباب، يتسع أفقهم، وتصبح الكنيسة فضاءً للحوار والمعرفة، لا يقتصر دورها على التعليم الديني، بل يمتد إلى بناء الإنسان الواعي والمثقف.
ويبدو أن رؤية البابا تواضروس الثانية في هذا الملف تتجاوز حدود الكنيسة، إذ دعا في أكثر من مناسبة إلى مكافحة "فقر الفكر" باعتباره أخطر من الفقر المادي، مؤكدًا أن القراءة قادرة على تجديد العقل والروح معًا، وأنها الخطوة الأولى في طريق النهضة الحقيقية لأي مجتمع.
إن القراءة كما يراها البابا ليست مجرد عادة، بل حياة تُعاش بعمق، وفعل مقاومة ضد الجهل والسطحية، ورسالة تحملها الكنيسة لتقول إن المعرفة طريق للإيمان والنور، وإن "اقرأ" ليست كلمة البداية في الكتاب المقدس فقط، بل بداية كل حياة تستحق أن تُعاش.













0 تعليق