فيما نحتفل بالذكرى الثمانين لإنشاء الأمم المتحدة، فإننا لا نحتفي بمجرد قدرة منظمتنا الأممية على الاستمرار؛ بل نتأمل في جدواها وأهميتها اليوم. فالأمم المتحدة لم تُنشأ لتكون نُصُبا تذكاريا شاهدًا على التاريخ، وإنما كأداة حية تبعث الأمل، ولدت من رحم الأزمات، لخدمة «نحن شعوب الأمم المتحدة»، إعمالا للافتتاحية الشهيرة لميثاق الأمم المتحدة.
وبعد ثمانية عقود، فإن ذلك الوعد التأسيسي — بإنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب، وصون حقوق الإنسان، وتحقيق التقدم الاجتماعي في أوسع معاني الحرية — يتعرض لاختبار غير مسبوق.
اليوم، يشهد عالمنا تراكمًا للأزمات التي تتجاوز الحدود: تصاعد النزاعات، وأزمات المناخ، واتساع فجوات عدم المساواة الاقتصادية، وثورة تكنولوجية تتسارع بوتيرة تفوق قدرة الحوكمة على مواكبتها، هذا فيما يتشظى المشهد الجيوسياسي، وتتعمّق فجوة الثقة بين المؤسسات والشعوب التي أُنشئت لخدمتها، ومع ذلك، يبقى جوهر التعددية - أي التعاون القائم على المبادئ المشتركة والاحترام المتبادل- هو بوصلتنا الأصدق في خضم هذه العواصف العالمية.
ويبرز ذلك جليًا في مصر والمنطقة العربية الأوسع. فعلى مدى عقود، وقفت الأمم المتحدة جنبًا إلى جنب مع مصر — دعمًا لتحديثها، وشراكةً في التنمية، وتعاونًا في أوقات الأزمات والتجدد. وفي المقابل، تظل مصر ركيزةً للاستقرار في محيط يزداد اضطرابًا. فمن تسهيل الحوار ودعم مساعي السلام إلى إيصال المساعدات الإنسانية لمن هم في أمسّ الحاجة إليها، لطالما برهنت مصر على أن الدبلوماسية المسؤولة والتعاون المتعدد الأطراف ليسا مفاهيم نظرية، بل التزامات عملية.
وبصفتها عضوًا مؤسسًا للأمم المتحدة، فإن مساهمة مصر على صعيد العمل الدولي متعدد الأطراف كانت — وما تزال — تاريخية ومعاصرة في آنٍ معًا. فهي من أوائل الدول التي تبنّت مبادئ العمل الجماعي المكرّسة في ميثاق الأمم المتحدة، وهي اليوم من كبار المساهمين في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام على مستوى العالم. وقد أكسبها دورها القيادي في حركة عدم الانحياز ونشاطها في مجموعة الـ77 مكانةً أخلاقية وصوتًا مسموعًا يعكس مصالح الجنوب العالمي.
وقد تجسّد هذا الإرث في شخصيات مصرية بارزة تركت بصمتها في تاريخ الأمم المتحدة: الدكتور مصطفى كمال طلبة، الذي قاد برنامج الأمم المتحدة للبيئة على مدى سبعة عشر عامًا وكان من روّاد الدبلوماسية البيئية؛ والأمين العام الأسبق للأمم المتحدة الدكتور بطرس بطرس غالي، الذي وسّع نطاق عمليات حفظ السلام وأجندة ما بعد النزاع؛ والدكتورة غادة والي، المديرة التنفيذية لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة؛ والدكتور خالد العناني، المدير العام المنتخب حديثًا لمنظمة اليونسكو. وتمثّل هذه الشخصيات مثالًا حيًّا على الشراكة المتواصلة بين مصر والنظام متعدد الأطراف.
كما برزت القيادة المصرية بوضوح على صعيد العمل المناخي. فباستضافتها لمؤتمر المناخ (COP27) في شرم الشيخ، وضعت مصر العدالة المناخية والتكيّف في صميم الأجندة العالمية، وأسهمت في إنشاء صندوق «الخسائر والأضرار» — وهو إنجاز تاريخي لصالح الدول الأشد ضعفًا. وتُبرز هذه الجهود أن دور مصر في التعددية لا يقتصر على الدبلوماسية فحسب، بل يشمل إحداث أثر ملموس لصالح الناس والكوكب.
إن مسار إصلاح الأمم المتحدة — ولا سيما منذ «قمة المستقبل» عام 2024 واعتماد «ميثاق المستقبل» —يهدف إلى جعل التعددية أكثر قدرة على الاستجابة لمتطلبات عصرنا. ويُحدّد الميثاق خارطة طريق تقوم على التضامن والاستدامة والثقة. غير أن الطموح العالمي لن يتحقق من دون الوسائل اللازمة، كما يذكّرنا الأمين العام للأمم المتحدة مرارًا. فلا يمكن إنقاذ أهداف التنمية المستدامة في ظل نظام مالي دولي يُحمّل أولئك الأكثر ضعفا أعباء الصدمات التي لم يتسببوا فيها. ومن ثم فإن إصلاح هذا النظام ليصبح أكثر عدلًا وقدرة على بناء الصمود هو شرط أساسي لاستعادة الثقة في التعاون الدولي.
وفي المنطقة العربية، ترتفع الرهانات أكثر من أي وقت مضى. فالكُلفة الإنسانية للنزاعات الممتدة وأزمات النزوح والهشاشة الاقتصادية في ازدياد، حتى في وقت تفتح فيه التكنولوجيا وآمال الشباب آفاقًا جديدة للتغيير. إن الاستقرار يبدأ بالكرامة — فعندما تُصان الحقوق، تصمد المجتمعات؛ وحين تُنتهك، يتعثر السلام والتنمية. لذا فإن حقوق الإنسان ليست ترفًا، بل هي الأساس الذي يُبنى عليه الاستقرار والازدهار.
ويتطلب المستقبل أن نتخذ خمس خيارات حاسمة:
أولًا، أن نختار السلام القائم على القانون الدولي — لا كشعار، بل كممارسة دبلوماسية يومية.
ثانيًا، أن نختار كرامة الإنسان والحقوق للجميع، ويجب أن يكون ذلك مدعومًا بتضامن مالي يضمن ألا تُترك أي دولة خلف الركب.
ثالثًا، أن نختار العدالة المُناخية، إدراكًا بأن الأكثر تضررًا من الأزمة هم الأقل تسببًا فيها.
رابعًا، أن نوجّه التكنولوجيا لخدمة الإنسان، لا أن نستسلم لهيمنتها.
وخامسًا وأخيرًا، أن نعزز الأمم المتحدة نفسها — أخلاقيًا وماليًا ومؤسسيًا — لتواكب تحديات القرن الحادي والعشرين بفاعلية ومصداقية.
في هذه اللحظة الحاسمة، تظل رسالة الأمم المتحدة واضحة: خدمة الإنسان، ومحاصرة الخوف، وتوسيع دائرة الأمل، ففي عالم يُنفق فيه على التسلّح أضعاف ما يُنفق على بناء السلام، تتجلى مهمتنا المشتركة ليس فقط في الدفاع عن إرث الأمم المتحدة، بل في تجديد رسالتها.
إن تجربة مصر بما تحمله من اتساق في المواقف، وإيمان بالحوار، وشعور بالمسؤولية تقدّم نموذجًا للتعددية التي يحتاجها عالمنا اليوم: تعددية تجمع بين المبدأ والواقعية، بين الوطني والعالمي، بين التاريخ والمستقبل. ومع اقتراب الذكرى المئوية للأمم المتحدة بعد عشرين عامًا، ينبغي أن يكون هدفنا المشترك بناء منظمة تحظى بثقة الشعوب، وتستند إلى العلم، وتُصغي إلى كل صوت.
إن الفصل القادم من مسيرة التعددية لن تكتبه المؤسسات وحدها، بل سيُكتب بشجاعة الأمم والمواطنين الذين يختارون التعاون بدلًا من الانقسام، والأمل بدلًا من الخوف.
إلينا بانوفا، المُنسقة المُقيمة للأمم المتحدة في مصر


















0 تعليق