عسكريًا، انتهت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، رغم الانتهاكات المتكررة هنا وهناك، لكن آثارها السلبية على أهالى القطاع ما زالت مستمرة، خاصة على الأمهات والأطفال والسيدات الحوامل، بعد أن تسببت الأسلحة الإسرائيلية والغازات السامة المستخدمة خلال الحرب فى كثير من حالات الإجهاض والولادات المبكرة للأمهات الحوامل، مع إحداث تشوهات فى الأجنّة والمواليد بنسبة زيادة ٢٥٪ عما قبل الحرب.
ويؤكد العاملون فى قطاع الصحة بغزة حدوث ارتفاع ملحوظ فى نسب الإجهاض بين النساء الحوامل، مع تزايد الولادات المبكرة بمعدلات ملحوظة، فضلًا عن حدوث تأثيرات دائمة على صحة كثير من الأمهات من أهالى القطاع، تظهر بشكل واضح فى أوزان المواليد الخُدَّج وناقصى النمو، فى الوقت الذى يعانى فيه القطاع من غياب الحضانات ووسائل الرعاية، مع انهيار المنظومة الصحية فى القطاع بشكل عام.
أكثر من 144 حالة تشوه بين المواليد خلال 18 شهرًا فقط
كشفت السلطات الطبية فى قطاع غزة عن إحصائيات مرعبة سُجلت لحالات الإجهاض وتشوهات الأجنّة. ووفق تصريحات الدكتور منير البرش، مدير عام وزارة الصحة فى قطاع غزة، فإن حالات تشوهات الأجنّة يقدر عددها بأكثر من ١٤٤ حالة تشوه بين المواليد خلال ١٨ شهرًا فقط. فيما كشف الدكتور محمد أبوعفش، مدير الإغاثة الطبية فى مدينة غزة وشمال القطاع، عن أن نسبة تشوه الأجنّة فى غزة تجاوزت ٢٥٪. كما أكد الدكتور صلاح الكحلوت، استشارى أمراض النساء والولادة فى جمعية أصدقاء المريض فى غزة، عن زيادة عمليات الإجهاض وارتفاع معدلاتها خلال الحرب على غزة بنسبة ٣٠٠٪.
وقال «الكحلوت»: «أكثر من ١٤٠ طفلًا ولدوا بتشوه خلقى، فأصبحنا نشاهد ولادة أجنَّة بلا رءوس، وهناك حالات تشوه نكتشفها بعد الشهر الرابع ولا يمكننا الإجهاض حينها بسبب الخطر على حياة الأم، واكتمال الجنين». وأوضح الدكتور عدنان راضى، رئيس قسم النساء والتوليد فى مستشفى «العودة» بغزة، أن الغازات السامة الناتجة عن القصف قد تبقى آثارها داخل الرحم، ما يؤثر على الأجنّة فى الولادات المقبلة.
وقال: «تم تسجيل حالات متكررة لتشوهات، بينما أنجبت أخريات أطفالًا طبيعيين، ما يؤكد أن تأثير العوادم يختلف من حالة لأخرى».
«مستشفى العودة»: تسجيل ولادات دون دماغ وتشوهات أخرى خطيرة
كشف الدكتور رائد البابا، رئيس قسم الأطفال فى مستشفى «العودة» بشمال قطاع غزة، عن تسجيل حالات كثيرة من تشوه الأجنّة منذ بداية الحرب الأخيرة، كانت أشهرها حالة نادرة لولادة طفلة تُدعى ملك أحمد القانوع، وُلدت دون دماغ!
وأضاف «البابا»: «شهدنا حالات أخرى لتشوهات فى الجهاز التنفسى، وضمور الدماغ والعضلات، لكنها لم تُسجّل رسميًا بسبب ضعف منظومة الرصد الطبى، فى حين تم توثيق حالة الطفلة (القانوع) لغرابتها وتداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعى».
وواصل: «تسجيل حالات تشوه خلال فترة الحرب يؤكد وجود ارتباط محتمل بين تلك التشوهات وعوادم الطائرات والصواريخ التى تستنشقها النساء الحوامل»، مشيرًا إلى أن «بعض التشوهات العصبية لا تظهر إلا مع تقدم الطفل فى العمر».
وأتم بقوله: «الأطفال خلال فترة الحرب عانوا من فقدان الوزن وسوء الهضم وفقر الدم الحاد، وعولج معظمهم بالحد الأدنى من الإمكانات، فى ظل النقص الشديد فى الأدوية والمستلزمات الطبية».
زيادة فى الولادات المبكرة.. والأطفال الخُدَّج دون حضّانات أو رعاية
للتعرف على الصورة عن قرب، تواصلت «الدستور» مع الدكتورة لينا محمد النجار، إخصائية النساء والولادة، للتعرف على آثار الحرب الشرسة على صحة النساء والأطفال، والتى بدأت مسيرتها الطبية فى عام ٢٠٠٣، فى مستشفى «العودة» وعدد من عيادات وزارة الصحة بقطاع غزة، والتى تنشط حاليًا، مع جمعية تنظيم وحماية الأسرة، لتقديم تدخلات طارئة للنساء فى مختلف الأعمار، تشمل الرعاية الصحية والنفسية ومتابعة الحوامل.
وأوضحت الطبيبة الفلسطينية، التى عانت مثل غيرها من النزوح المتكرر خلال الحرب ما أطلعها على أحوال النساء والأمهات فى مختلف المناطق والمخيمات، أن الحرب انعكست بوضوح على صحة النساء الحوامل والأجنّة، مشيرة إلى الارتفاع الملحوظ فى نسب الإجهاض والولادات المبكرة خلال العامين الماضيين.
وقالت، لـ«الدستور»: «نرى حالات ولادة فى الشهر السادس أو السابع، وغالبًا ما يكون وزن المواليد أقل من الطبيعى، فى ظلّ النقص الحاد فى الحضانات نتيجة تدمير المستشفيات، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الوفاة والمرض بين الأطفال الخُدّج». وأشارت إلى أن تشوهات الأجنّة فى غزة أصبحت ظاهرة مقلقة، حيث ترصد فى عيادتها حالات متعددة تشمل تشوهات خارجية وداخلية. وأضافت: «بعض المؤشرات تكشف مبكرًا عن وجود خلل لدى الأم والجنين، مثل زيادة أو قلة السائل الأمنيوسى داخل الرحم أو عدم توافق حجم الجنين مع عمر الحمل، وغالبًا ما يكون حجم الجنين أصغر من عمره، ما يستدعى متابعة دقيقة ورعاية مستمرة».
ولفتت إلى أن هناك علامات تظهر على السيدات الحوامل تدل على أن الأجنّة تعانى من تشوهات، منها حجم البطن الأكبر أو الأصغر من المعتاد، الأمر الذى يستدعى اللجوء للولادات القيصرية. وبينت أن العديد من نساء القطاع يضطررن للولادة فى ظل ظروف صعبة، وأحيانًا دون الوصول إلى المستشفيات، قائلة: «الكثير من النساء لا يتمكنّ من الوصول للمرافق الصحية بسبب القصف أو انقطاع الطرق، لذا نحاول تزويدهنّ بكتب عن الولادة الطارئة، وتدريبهن على كيفية الولادة الآمنة داخل الخيام». وشددت الطبيبة الفلسطينية على أهمية التوعية بتنظيم الأسرة خلال الحرب، فى ظل انهيار الخدمات الطبية داخل القطاع، موضحة أن الهدف ليس منع الحمل، بل تقليل المخاطر على النساء والأجنّة فى ظل انعدام الرعاية الكافية. وتابعت: «نحاول إيصال رسالة للسيدات توضح أن هذه المرحلة يجب أن تكون فترة تخطيط وتنظيم، حتى نجتازها بأقل الخسائر». واستطردت: «تعبنا كثيرًا خلال العامين الماضيين، وعانينا من النزوح المتكرر، والعمل وسط الدمار، والتعامل مع أوجاع النساء ومعاناتهن، وكلها تجارب مرهقة جسديًا ونفسيًا حتى للأطباء، فقد فقدت بيتى كما فقد كثيرون منازلهم، لكنّ الألم الأكبر هو رؤية الأمهات يفقدن أطفالهنّ أو يلدن فى ظروف غير إنسانية، لكننا مؤمنون بقضاء الله وقدره، ونتمنى أن تنتهى هذه الكارثة قريبًا، لأن النساء فى غزة تحملن عبئًا يفوق الوصف، ونحن نحاول فقط أن نحمى ما تبقى من حياة وسط هذا الركام».
سيدات: نعانى من إجهاض متكرر ونزيف بسبب سموم ومخلّفات الحرب
تزوجت «م.أ ج»، البالغة من العمر ٢٣ عامًا، خلال الحرب الأخيرة على غزة، وتعرضت لإجهاض بعد فترة قصيرة، ثم حملت بعدها مرة أخرى، وكانت الأمور مستقرة حتى وصلت إلى الشهر الثالث من الحمل. وقالت الأم الغزاوية: «خلال المتابعة فى الأشهر الثلاثة الأولى كانت كل الأمور بخير، لكن قبل أيام من حوارى معكم، تعرضت إلى نزيف شديد ثم الإجهاض مرة ثانية، ليتم تحويلى إلى المستشفى».
وأكدت عدم وجود تاريخ لأسرتها مع الإجهاض المتكرر، مرجحة أن السبب وراء الإجهاض الآن هو مخلّفات الحرب، وما تعرضوا له خلال الحرب نفسها من قصف بمواد كيماوية وأدخنة سامة. فيما تعانى حالة أخرى تدعى «ن. ف»، فى الشهر السادس لحملها، من ضيق فى التنفس وصداع مستمر وسوء تغذية. وقالت، خلال شهادتها لـ«الدستور»: «خلال المتابعة وتصوير الجنين وجدت أن هناك زيادة فى السائل الأمنيوسى عن المعدل الطبيعى، والمشيمة بها تكيسات وأكبر من حجمها الطبيعى، لذا أكد لى الأطباء حاجتى إلى متابعة دقيقة».
وروت السيدة «أم جمال»، من قطاع غزة، أنها كانت حاملًا قبل أشهر، وواجهت قسوة الحرب فى غزة، حيث عاشت تحت وطأة القصف، والنزوح المتكرر، واستنشقت الأدخنة الناتجة عن الصواريخ، قبل أن تضع مولودها فى خضم المجاعة التى اجتاحت القطاع.
وأضافت «أم جمال»، التى أنجبت طفلها «جمال» قبل نحو ٤ أشهر: «واجهت أوضاعًا إنسانية بالغة الصعوبة، إذ لم يتوافر لى سوى العدس والخبز كمصدر للغذاء على مدى أكثر من شهرين، فى وقت عانى فيه السكان من ندرة شديدة فى كميات الطعام المتاحة».
وواصلت: «النساء لم يكنّ يدركن خطورة المجاعة على الأمهات الحوامل، لكونهن لم يعشن ظروفًا مماثلة من قبل، والأمر لم يقتصر عليهن فقط، بل امتد التأثير السلبى ليشمل أطفالهن أيضًا»، مشيرة إلى أن طفلها «جمال» يرقد فى أحد مستشفيات غزة الآن مصابًا بسوء تغذية حاد، بعدما لم يزد وزنه منذ الولادة سوى بضعة جرامات، ليقف عند ٤ كيلوجرامات عند عمر ٤ أشهر. وتعانى الأم من سوء تغذية شديد، وتخضع للعلاج إلى جانب طفلها فى المستشفى، حيث يتلقيان رعاية طبية وغذائية متخصصة فى قسم سوء التغذية للأطفال والأمهات. ولا تعد حالة «أم جمال» استثناءً، بل تمثل واحدة من آلاف الحالات لأمهات حوامل وأطفال فى غزة يعانون جراء الحصار والمجاعة ونقص الغذاء والدواء.
ويأمل الطاقم الطبى أن يستجيب الطفل للعلاج قريبًا، فى ظل ظروف إنسانية صعبة تعيشها الأسر الفلسطينية المحاصرة، التى ما زالت تكافح من أجل البقاء.














0 تعليق