الحكومة المقبلة: من يصنع القرار مع الوزير؟ (٣) 

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في الدولة الحديثة، لا يُقاس نجاح الوزير فقط بما يصدره من قرارات، بل بمدى كفاءة المؤسسة التي تحيط به وتعاونه في صناعة القرار، غير أن الواقع المصري يُظهر خللًا بنيويًا واضحًا في هذه الحلقة الحساسة من منظومة الحكم، فـ"مكتب الوزير" في صورته الحالية، غالبًا ما يعاني من فوضى تنظيمية، وضعف مؤسسي، وغياب للمعايير في اختيار أعضائه.

تحوّل المكتب في كثير من الوزارات إلى مجرد دوائر مغلقة من المقرّبين، ومناصب تُمنح بالمجاملة أو الثقة الشخصية لا بالكفاءة، فغاب التنوع العلمي، واختفت روح الفريق، وتضخمت ظاهرة “المعاونين غير الفاعلين” الذين يحضرون بلا دور، ويوقعون بلا رؤية، ويتحدثون بلا علم.

وهكذا، يجد الوزير نفسه محاصرًا بجدار من المعلومات الانتقائية، ترفع إليه التقارير بما يريد سماعه لا بما يجب معرفته، فيتخذ قراراته في فراغ إداري وعزلة فكرية عن الواقع الميداني.

إنّ أخطر ما يواجه الدولة ليس ضعف الوزير، بل ضعف من يعاونونه، فصناعة القرار الوزاري تحتاج إلى "عقل مؤسسي" لا إلى دوائر الولاء، وإلى أجهزة تملك أدوات التحليل لا أدوات التجميل، وما لم يُعَد بناء مكتب الوزير علميًا وهيكليًا، فلن تجدي أي إصلاحات حكومية مهما حسُنت النوايا.

أولا: المكتب الفني للوزير: عقل القرار التنفيذي

نبدأ من المكتب الفني للوزير، والذي يٌعد بمثابة القلب الفكري للوزارة، وبيت الخبرة الذي يجب أن يَمدّ الوزير بالمعلومة والتحليل والتوصية، وهو المسؤول عن إعداد الدراسات، وتحليل القرارات، وربط سياسات الوزير بالإطار العام لرؤية الدولة ومجلس الوزراء.

ويجب أن يُعاد تنظيم هذا المكتب ليضم وحدات واضحة المهام، منها:

  1. وحدة الدراسات والتحليل: لإعداد مذكرات القرارات والبدائل المتاحة وتقييم الأثر المترتب عليها.
  2. وحدة المتابعة والتنسيق: للربط بين ما يصدر عن الوزارة وما يُتخذ من قرارات على مستوى مجلس الوزراء.
  3. وحدة المعلومات والتوثيق: لحفظ القرارات السابقة والبيانات ذات الصلة بقطاعات الوزارة.

ويُفترض أن يضم المكتب الفني نخبة من الكفاءات المتنوعة: إداريين، واقتصاديين، وقانونيين، ومخططين إستراتيجيين، يعملون بمنهجية الفريق، ويُعيَّنون بناءً على الكفاءة فقط، فالمكتب الفني ليس سكرتارية الوزير، بل مركز التفكير الذي يحوّل رؤيته إلى سياسات قابلة للتنفيذ.

ثانيا: المستشارون: بوصلة القرار المتخصص

في التجارب الحكومية الناجحة، لا يُترك الوزير بلا مرجعية علمية متخصصة، لذا من الضروري أن يُحيط نفسه بعدد من المستشارين الفنيين في مجالات محددة ترتبط بطبيعة عمل وزارته، مثل:

  1. المستشار القانوني: لمراجعة مشروعات القرارات والعقود، وضمان اتساقها مع الدستور والقوانين واللوائح.
  2. المستشار الاقتصادي أو المالي: لتقدير الأثر المالي لأي قرار أو مشروع، وتقييم كفاءته الاقتصادية.
  3. المستشار الإعلامي: لتوحيد الخطاب الإعلامي للوزارة وضمان دقته واتساقه مع سياسات الدولة.
  4. المستشار التكنولوجي والتحول الرقمي: للإشراف على تطوير البنية المعلوماتية وضمان التحول إلى الحوكمة الذكية.
  5. المستشار الاستراتيجي أو التخطيطي: لربط أهداف الوزارة بالأهداف القومية العامة ومتابعة التنفيذ المرحلي.

ولا بد من أن يتم اختيار هؤلاء المستشارين وفق معايير مهنية صارمة، من حيث المؤهل والخبرة والنزاهة الفكرية، وألا يكونوا مجرد أصدقاء الوزير أو مرافقيه السابقين في مواقع أخرى، فالمستشار هو “صوت العلم” داخل المكتب الوزاري، وإذا خفت هذا الصوت، ساد العشوائية.

ثالثا: إدارة المتابعة والتفتيش: عين الوزير في الميدان

إنّ الوزير لا يمكنه أن يدير وزارته من وراء المكتب، ولا أن يعتمد على التقارير الورقية فقط، لذلك فإن وجود إدارة للمتابعة والتفتيش تابعة مباشرة لمكتبه أمر لا غنى عنه، وهذه الإدارة هي “عين الوزير في الميدان”، تتابع تنفيذ قراراته في المديريات والإدارات والهيئات التابعة، وترصد معدلات الإنجاز والانحرافات، وتقدم تقارير دورية دقيقة تُعرض عليه مباشرة.

وتسهم هذه الإدارة في بناء الثقة بين الوزير والجهاز التنفيذي، وتضمن أن القرارات لا تظل حبيسة الأدراج، بل تُترجم إلى واقع قابل للقياس، كما أنها تمنع تضليل القيادة بالمعلومات غير الدقيقة، وتحقق الانضباط المؤسسي المطلوب.

رابعا: نائب الوزير لشؤون الخطة: مسؤول التنفيذ لا الظهور

في الهيكل الحكومي الحديث، يُعد استحداث منصب نائب الوزير لشؤون الخطة والتنفيذ خطوة ضرورية، وتكون مهمته ليست التشريف، بل المتابعة الدقيقة لدور الوزارة في تنفيذ خطة الدولة العامة، وضمان تكامل البرامج بين القطاعات المختلفة.

ويُفترض أن يمتلك هذا النائب أدوات قياس الأداء، ويتولى التنسيق مع الوزارات الأخرى لتجنب الازدواجية وتضارب الاختصاصات، وبذلك يُتاح للوزير أن يتفرغ لوضع السياسات العامة وصناعة القرار، بينما يتولى النائب مسؤولية تحقيق الأهداف التنفيذية على الأرض.

خامسا: المساعد للشؤون القانونية والمجالس النيابية: رابط بين التشريع والتنفيذ

كل وزارة يجب أن تضم وحدة قانونية عليا يقودها مساعد الوزير للشؤون القانونية والمجالس النيابية، وهو همزة الوصل بين الجهاز التنفيذي والبرلمان، ويتولى هذا المساعد مراجعة مشروعات القوانين والقرارات قبل صدورها، وضمان اتساقها مع الإطار الدستوري، كما يُعد ردود الوزارة على الاستجوابات والأسئلة البرلمانية، وينسق بين الوزير واللجان النيابية.

ووجود هذا المنصب يخلق وعيًا قانونيًا دائمًا داخل الوزارة، ويمنع التضارب بين التنفيذ والتشريع، ويحقق شفافية كاملة في العلاقة بين السلطتين.

سادسا: المكتب الإعلامي للوزير: نافذة الشفافية والمسؤولية

في عصر السرعة والمعلومة، لا يمكن لأي وزير أن ينعزل عن الإعلام أو يترك صورته العامة للتكهنات، ويجب أن يُعاد تعريف المكتب الإعلامي للوزير بوصفه أداة للشفافية والتفاعل، لا للدعاية والتجميل، وتكون وظيفته أن يصدر البيانات الرسمية الدقيقة، ويشرح للرأي العام خلفيات القرارات، ويعرض بوضوح ما تحققه الوزارة وما تواجهه من تحديات، كما يتولى هذا المكتب إدارة التواصل الرقمي عبر المنصات الرسمية، ورصد اتجاهات الرأي العام والتعامل معها بالحقائق لا بالإنكار.

إنّ الإعلام الواعي هو جزء من منظومة الحكم الرشيد، والمكتب الإعلامي هو بوابة الوزارة إلى الناس، ومصدر ثقة المجتمع في الدولة.

 

سابعا: مكتب الشكاوى: صوت الناس إلى الوزير

من المهم أن يمتلك الوزير أداة تتيح له التواصل المباشر مع المواطنين والمستفيدين من خدمات وزارته، لذلك يجب إنشاء مكتب للشكاوى والمقترحات تابع مباشرة له، يتلقى الملاحظات من الجمهور ويتعامل معها بجدية وشفافية.

هذا المكتب ليس مجرد واجهة لتلقي الخطابات، بل نظام إداري متكامل لتصنيف الشكاوى وتحليلها وقياس اتجاهات الرضا العام عن أداء الوزارة، ومن خلاله، يظل الوزير على صلة بنبض الشارع، يعرف ما يعانيه المواطن وما يتكرر من أوجه قصور في الأجهزة التابعة، فيعيد تصويب السياسات من القاعدة إلى القمة، فلا إصلاح بلا استماع، ولا تطوير بلا فهم لاحتياجات الناس الحقيقية.

ثامنا: الشباب بين الحماس والتأهيل

سياسة الدولة في تمكين الشباب لا جدال فيها، لكن نجاحها مرهون بحسن توظيفهم، والأفضل أن يُعهد إلى الشباب بإدارة المشروعات التنفيذية داخل الوزارات، حيث يتعلمون عمليًا أسس الإدارة، والتعامل مع الموارد والوقت والرقابة، بدلًا من شغل مناصب شكلية بلا أثر، وإدارة المشروعات هي المدرسة الحقيقية لتكوين القيادات القادمة، وهي التي تصنع الصف الثاني القادر على التفكير والتنفيذ معًا.

تاسعا: إدارة تدريب وتأهيل القيادات: مصنع الكوادر

ينبغي أن تتبع الوزير مباشرة إدارة للتدريب والتأهيل الخاص بقيادات الوزارة، تتولى إعداد برامج تطوير مستمرة لقيادات الوزارة والجهات التابعة لها، وتُعنى هذه الإدارة بتأهيل الوظائف القيادية على مهارات صناعة القرار، وفهم اللوائح الإدارية والمالية، وآليات الرقابة، وأساليب إدارة الأزمات، حتى يصبح الجهاز الإداري ذكيًا قادرًا على العمل بكفاءة مع تغير الظروف.

يبقى الأمر الهام الذي يجب أن يلتفت إليه الوزير بنفسه، فلا يُعقل أن يدير الوزير مؤسسة دون أن يكون على إلمام بالقوانين العامة المنظمة لعمل الدولة، مثل: قانون المشتريات والمناقصات الحكومية، قانون المخازن والمستودعات العامة، قانون الخدمة المدنية والعمل، قانون المحاسبة الحكومية والرقابة المالية، قانون حماية البيانات والتحول الرقمي، فضلًا عن القوانين والقرارات الوزارية السابقة الخاصة بوزارته وهيئاتها التابعة.

إن إدراك الوزير لهذه المنظومة القانونية يجعله أكثر وعيًا بحدود سلطاته، وأكثر قدرة على اتخاذ قرارات منضبطة تحميه وتحمي الدولة من الأخطاء القانونية.

ختامًا، إنّ بناء الحكومة المقبلة لا يجب أن يبدأ من أسماء الوزراء، بل من هندسة مكاتبهم، فنجاح الوزير يُقاس بكفاءة من يعاونونه، وقدرتهم على التفكير، لا على التملّق.

وحين تصبح الوزارة مؤسسة حقيقية تُدار بالعلم والمعلومة والرقابة والشفافية، عندها فقط نكون قد اقتربنا من مفهوم "الدولة الحديثة" التي لا تقوم على الأشخاص بل على النظام.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق