في مشهدٍ تجاوز حدود الخيال والواقع، استيقظت مدينة الإسماعيلية على فاجعةٍ زلزلت وجدان المجتمع المصري من أقصاه إلى أقصاه. لم تكن الحادثة مجرّد خلافٍ عابر بين طفلين، بل مأساة إنسانية مروّعة كشفت عن خللٍ اجتماعي ونفسي عميق، يُنذر بانهيار منظومة القيم أمام زحفٍ متوحّشٍ من العنف البصري والفكري الذي يلتهم براءة الطفولة يومًا بعد يوم.
وأنا أتابع تفاصيل القضية، وجدت عقلي يعجز عن استيعاب ما حدث، وكأننا أمام مشهدٍ خرج من كوابيس لا من واقعٍ نعيشه.
من داخل أحد منازل حيّ المحطة الجديدة في الإسماعيلية، بدأت القصة كصداقةٍ عادية بين مراهقين، لكنّها سرعان ما تحوّلت إلى كابوسٍ دمويٍّ تجاوز حدود التصوّر.
الطفل يوسف، البالغ من العمر ثلاثة عشر عامًا، استدرج صديقه محمد زميله في المدرسة إلى شقته بحجة اللعب. لكن ما بدأ بمشادةٍ بسيطة، سبقتها خلافات قديمة وسرقة هاتفٍ محمول، انتهى بجريمةٍ مروّعة: ضربات قاتلة وتمزيقٍ لجثمان الضحية في مشهدٍ صادم، استلهمه الجاني الصغير من أفلامٍ وألعابٍ إلكترونية مشبعة بالعنف.
اعترف المتهم أمام جهات التحقيق بتفاصيل تقشعرّ لها الأبدان، إذ قال إنه قرر على حد قوله “التخلّص من زميله” بعد مشادةٍ بينهما، مقلّدًا مشاهد عنيفة شاهدها في أحد الأفلام الأجنبية، وفي لعبةٍ إلكترونية عبر الإنترنت.
كما أقرّ بأنه قطع جزءًا من ساق زميله (السمانة)، ثم قام بطهيها وتناول قطعةً منها.
وكشفت التحقيقات أن المتهم نفّذ جريمته ببرودٍ شديد وثباتٍ انفعالي غير مألوف لطفلٍ في مثل عمره، إذ كان يتحدث عن الواقعة بهدوءٍ غريب، وكأنه يروي مشهدًا سينمائيًا، لا يدرك أبعاده الحقيقية ولا فداحة ما اقترفه.
لم يُدرك ذلك الطفل أن ما كان يراه تسليةً أو بطولةً خيالية عبر الشاشة، يمكن أن يتحول في الواقع إلى مأساةٍ إنسانية حقيقية تُنهي حياة صديقه وتدمّر مستقبله إلى الأبد، لتبقى قصتهما شاهدًا صارخًا على خطورة ما يُغرس في عقول الصغار حين تغيب الرقابة وتضعف القيم.
هذه الواقعة المؤلمة ليست مجرد حادثٍ فردي، بل انعكاسٌ لظواهر متشابكة تتغلغل في المجتمع المعاصر، حيث تتراجع الرقابة الأسرية وتتسلّل ثقافة العنف إلى عقول الصغار عبر وسائل الترفيه الحديثة.
فمن جهة، يُترك الأطفال لساعاتٍ أمام الشاشات يمارسون ألعابًا تتغذى على الدماء والانتقام، ويشاهدون أفلامًا تُقدَّم فيها الجريمة على أنها بطولة أو تحدٍّ. ومن جهةٍ أخرى، يغيب الحوار الأسري، وتضعف التربية الوجدانية التي تُنمّي لدى الطفل الإحساس بالمسؤولية والتعاطف الإنساني.
إن هذا النوع من الجرائم يعكس اضطرابًا في الإدراك العاطفي لدى الأطفال، إذ لم يعد بعضهم قادرًا على التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الفعل التمثيلي والعنف الحقيقي. كما تُبرز الجريمة غياب دور المدرسة والمؤسسات التربوية في بناء وعيٍ نقدي لدى الطلاب تجاه المحتوى الرقمي الذي يستهلكونه، مما يجعلهم أكثر عرضةً للتأثر والانزلاق نحو السلوك العدواني.
القضية لا تُختزل في طفلٍ ارتكب فعلًا بشعًا، بل في منظومةٍ كاملةٍ فقدت توازنها. فالأسرة تتحمّل مسؤولية الإشراف والتقويم، والإعلام مسؤول عن تقديم محتوى هادف لا يُمجّد العنف، والمدرسة مطالبةٌ بإحياء قيم الحوار وضبط الانفعالات لدى النشء. كما أن الدولة مدعوةٌ إلى دعم برامج الصحة النفسية للأطفال والمراهقين، ومراقبة المحتوى الرقمي الذي يغزو العقول بلا حدود.
إن جريمة الإسماعيلية ليست حادثةً عابرة تُطوى بمرور الأيام، بل جرس إنذارٍ حقيقي يهدد بانهيار منظومة القيم إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة لحماية عقول الصغار.
وبين براءةٍ ضاعت في لحظة، وحياةٍ أُزهقت بدمٍ بارد، يقف المجتمع أمام مسؤوليةٍ كبرى، أن يُعيد للطفولة معناها، وللتربية دورها، وللرقابة قيمتها، قبل أن نصحو على مآسٍ جديدة تُكتب بدماء الأبرياء على أيدي من لم يعرفوا بعد معنى الجريمة ولا ثمنها.
0 تعليق