محمد دياب يكتب: غزة لا تُبنى بالأسمنت وحده

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 

تبدو الدعوات المتزايدة لبدء عملية إعادة إعمار غزة وكأنها خطوة إنسانية عاجلة بعد كل ما شهدته من دمار ومعاناة غير أن السؤال الأهم الذي يجب أن يُطرح: كيف يمكن أن تبدأ عملية بهذا الحجم تُقدّر تكلفتها بالمليارات دون أن تسبقها ضمانات أمنية حقيقية تضمن عدم تكرار الكارثة من جديد؟

إن الإسراع في إعمار غزة قبل توفير بيئة من الأمن والاستقرار يشبه محاولة تضميد جرحٍ لم يتوقف نزيفه بعد. فمهما بُذلت من جهود عربية ودولية ومهما تدفقت الأموال فإن غياب الأمن سيظل الخطر الأكبر الذي يهدد كل ما يُشيَّد ويُعمَر

نحن لا نتحدث هنا عن حالة مثالية في عالم السياسة بل عن واقع تفرضه التجارب المريرة. فمع إسرائيل لا يمكن الركون إلى حسن النوايا أو الوعود العابرة لأنها دولة بنت تاريخها على نقض الاتفاقات وتوسيع دائرة العنف والدمار كلما سنحت الفرصة

المنطق يقول إن أي عملية إعمار لا بد أن تُبنى على أساس من الضمانات الأمنية الصلبة — ضمانات دولية وأمريكية بل وإسرائيلية مكتوبة وموثوقة تُلزم الجميع بعدم العودة إلى دوامة العدوان. دون ذلك سيبقى كل جهد لإعادة الإعمار مجرد محاولة مؤقتة تُهدر فيها الأموال وتُبدد فيها الآمال

غزة اليوم تحتاج إلى إعادة بناء الحجر وترميم ما هو أعمق من ذلك — ترميم الإنسان نفسه. آلاف الأسر فقدت منازلها وأحباءها وأجيال كاملة نشأت في ظل الحصار والخوف. هؤلاء لا يحتاجون إلى جدران جديدة بقدر ما يحتاجون إلى إحساس بالأمان وإلى يقين بأن الغد لن يحمل لهم جولة جديدة من الدمار. فالإعمار بلا أمن هو كمن يزرع في أرض مهتزة لا قرار لها

كما أن المجتمع الدولي مطالب اليوم بأن يتعامل مع القضية الفلسطينية من منطلق العدالة لا من باب الإغاثة فقط. فإعادة الإعمار واجبٌ مستحق لغزة وحقٌ أصيل لشعبٍ دفع ثمن صموده وكرامته. ولعل الدور العربي في هذه المرحلة يحتاج إلى أن يتجاوز حدود التمويل ليصل إلى صياغة رؤية شاملة تضمن استقرارًا طويل المدى وتضع حدًا لسياسة الهدم ثم الإعمار التي أصبحت نمطًا مأساويًا متكررًا منذ عقود

ربما يبدو هذا الكلام قاسيًا لكنه واقعي. فغزة التي تنهض من تحت الركام بحاجة إلى بيئة من الاستقرار الدائم لا إلى مبانٍ تُشيد اليوم لتُهدم غدًا. الإعمار الحقيقي يبدأ بالأمان والالتزام والنية الصادقة لوقف دوامة الدم والدمار ثم يكتمل بالإسمنت والحديد

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق