رفاعة الطهطاوي "مترجمًا".. الرجل الذي نقل أوروبا إلى العربية

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في ذكراه..

في مثل هذا اليوم من عام 1801 وُلد رفاعة الطهطاوي، أحد أبرز روّاد النهضة العلمية والفكرية في مصر الحديثة، ورمزًا للمعلم والمصلح الذي آمن بأن سبيل الأمم إلى التقدّم لا يكون إلا بالعلم المتاح لكل الناس، دون تفرقة بين غني وفقير أو بين رجل وامرأة، وكان الطهطاوي في حياته كلها معلمًا بالفطرة، ومربيًا بالفكر والسلوك، وهب نفسه لمشروع وطني وثقافي هدفه الارتقاء بالمجتمع المصري عبر التعليم والترجمة والانفتاح على الحضارة الحديثة.

رحلة رفاعة الطهطاوي.. من طهطا إلى الأزهر

وُلد رفاعة الطهطاوي في مدينة طهطا بمحافظة سوهاج في أسرة شريفة النسب تعود جذورها إلى آل البيت، وحفظ القرآن الكريم صغيرًا، وتلقى علومه الأولى على أيدي علماء أخواله، ثم التحق بالأزهر الشريف عام 1817م، وهناك درس الفقه والتفسير والنحو والتصوف على أيدي كبار العلماء، من أبرزهم الشيخ حسن العطار الذي أثّر فيه تأثيرًا بالغًا، ففتح أمامه آفاقًا جديدة على العالم الحديث.

وبعد ست سنوات من الدراسة جلس رفاعة الطهطاوي للتدريس بالأزهر وهو في الحادية والعشرين من عمره، فاشتهر بأسلوبه الجذاب وقدرته على تبسيط العلوم، قبل أن ينتقل إلى الجيش المصري إمامًا وواعظًا.

في باريس.. الشيخ الذي صار تلميذًا للنهضة

في عام 1826، أرسل محمد علي باشا بعثة علمية إلى فرنسا لدراسة العلوم الحديثة، وكان الطهطاوي إمامًا وواعظًا لأعضائها، لكنه لم يكتف بدوره الديني، بل انكب على دراسة اللغة الفرنسية على ظهر السفينة قبل أن تصل إلى باريس، وهناك، تحوّل الشيخ الأزهري إلى باحث ومترجم نَهِم للمعرفة، درس على أيدي كبار المستشرقين مثل دي ساسي، وأشرف عليه العالم الفرنسي جومار، حتى قررت الحكومة المصرية ضمه رسميًا إلى البعثة كطالب ترجمة.

وخلال خمس سنوات قضاها في باريس، أنجز الطهطاوي كتابه الأشهر "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، الذي عرّف المصريين للمرة الأولى بروح الحضارة الأوروبية ونظامها السياسي والاجتماعي، بلغة عربية رشيقة ووعي نقدي متوازن، لا منبهر ولا منغلق.

عاد رفاعة الطهطاوي إلى مصر عام 1832 محمّلًا بتجربة فريدة، فكان أول من شغل وظيفة مترجم بمدرسة الطب، ثم بمدرسة الطوبجية، قبل أن يحقق حلمه الأكبر بإنشاء مدرسة الألسن عام 1835، وكانت هذه المدرسة نواة النهضة التعليمية الحديثة في مصر، إذ أُعدّت لتخريج جيل من المترجمين والعلماء القادرين على نقل علوم الغرب إلى العربية.

تولى الطهطاوي نظارتها بنفسه، وأدارها بحماس المعلم وصبر المصلح، فاختار الكتب التي تُترجم، وراجع الترجمات، وعلّم تلاميذه بنفسه اللغات والآداب والعلوم، وتخرّج في مدرسته نخبة من المترجمين والعلماء الذين أسهموا في بناء الدولة الحديثة.

الترجمة عند رفاعة الطهطاوي.. مشروع نهضة

لم تكن الترجمة عند رفاعة الطهطاوي عملًا لغويًا فحسب، بل مشروعًا حضاريًا متكاملًا، فقد أدرك أن النهضة لا تقوم إلا على نقل المعرفة إلى لغة الأمة ومفاهيمها، لذلك أنشأ أقسامًا متخصصة للترجمة في الرياضيات والطبيعيات والإنسانيات، كما عمل على تعريب العلوم لتُدرَّس بالعربية بدلًا من التركية أو الفرنسية.

وفي عهده، شهدت جريدة الوقائع المصرية نقلة نوعية؛ إذ جعلها تصدر بالعربية وجعل من المقال السياسي والفكري جزءًا من مضمونها، كما يُنسب إليه تأسيس أول متحف للآثار المصرية، إدراكًا منه لأهمية حفظ التراث الوطني إلى جانب استيعاب معارف العصر.

قلم الترجمة.. تتويج مسيرة الطهطاوي

في عهد الخديو إسماعيل، تولى الطهطاوي نظارة قلم الترجمة عام 1863، فجمع حوله تلاميذه من خريجي الألسن، وترجموا معًا القوانين الفرنسية إلى العربية في عمل ضخم صدر عن مطبعة بولاق، وكانت تلك الخطوة نقلة نوعية في تاريخ الفكر القانوني العربي، إذ تطلبت مزجًا بين فقه الشريعة الإسلامية وروح القانون الحديث.

توفي رفاعة الطهطاوي عام 1873 بعد أن ترك وراءه عشرات الكتب المترجمة والمؤلفة، ومئات التلاميذ الذين حملوا فكر الإصلاح من بعده، فلم يكن مجرد مترجم، بل كان جسرًا حضاريًا نقل مصر والعالم العربي من عصور الجمود إلى آفاق التنوير، مؤمنًا بأن "العلم لا وطن له، لكن ترجمته تصنع وطنًا متعلمًا".

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق