بمناسبة ذكرى ميلاده..
في مثل هذا اليوم، 21 يونيو من عام 1905، وُلد في باريس أحد أعمدة الفكر في القرن العشرين، جان بول سارتر الفيلسوف والروائي والمسرحي الفرنسي الذي ارتبط اسمه بـالوجودية وحرية الإنسان ومسؤوليته الأخلاقية والاجتماعية، قبل أن يرحل في 15 أبريل 1980، بعد حياة فكرية حافلة أثرت بعمق في الثقافة، الفلسفة، الأدب، والسياسة.
طفولة وبدايات سارتر
فقد جان بول سارتر والده طفلًا، فنشأ في كنف جده لأمه، كارل شفايتسر، الأستاذ في جامعة السوربون وعمّ المفكر ألبرت شفايتسر. كان صبيًا ضعيف البنية، حالمًا، وجد في "الكلمات" ملاذه الأول، وقد روى تفاصيل تلك الطفولة في سيرته الذاتية الفريدة "الكلمات" (1963)، التي تمثل شهادة عاطفية وفلسفية عن ميلاد كاتب وفكر.
بعد تخرجه في المدرسة العليا للأساتذة عام 1929، والتي شهدت تكوينه الفلسفي، التقى سارتر بـ"سيمون دي بوفوار"، التي ربطته بها شراكة فكرية وإنسانية استثنائية، دون زواج رسمي.
الفلسفة من نقيض الوجود
منذ ثلاثينيات القرن العشرين، بدأ سارتر في تطوير أفكاره بالاعتماد على المنهج الظاهراتي (الفينومينولوجي) المستوحى من إدموند هوسرل، والذي ظهر في أعماله المبكرة مثل "الخيال" و"نظرية العواطف".
لكن عمله الفلسفي الأبرز والأكثر تأثيرًا كان كتاب "الوجود والعدم" (1943)، حيث صاغ رؤيته للوعي بوصفه "لاشيء" في مقابل "الوجود" بوصفه "شيئًا"، مؤسسًا بذلك جوهر فلسفته الوجودية القائمة على الحرية، الاختيار، والمسؤولية.
أما روايته الشهيرة "الغثيان" (1938)، فقد قدمت، عبر بطلها "روكنتان"، شعور الاشمئزاز من الوجود نفسه، كاشفة عن أزمة الذات المعاصرة وانفصالها عن العالم والأشياء.
من الفلسفة إلى المسرح
بعد الحرب العالمية الثانية، تحول اهتمام سارتر من الفرد إلى المسؤولية الاجتماعية، فكتب محاضرته الشهيرة "الوجودية نزعة إنسانية" (1946)، التي دافع فيها عن الحرية المرتبطة بالفعل الأخلاقي والاجتماعي. من هنا انطلقت مسيرته الإبداعية في الرواية والمسرح، فأصدر ثلاثية "دروب الحرية"، قبل أن يتخلى عن الرواية لصالح المسرح الذي رآه أكثر قدرة على تصوير الإنسان في لحظة الفعل.
من أبرز مسرحياته: "الذباب"، "لا مخرج" (Huis Clos)، "الأيادي القذرة"، و"الشيطان والإله الطيب" في هذه الأعمال، عبر عن صراع الإنسان مع ذاته والآخرين، ورغم التشاؤم الظاهري، فإنها حملت نداءً أخلاقيًا بالتحرر والاختيار.
صوت حر مدافع عن المستضعفين
لم يكن سارتر فيلسوفًا منعزلًا، بل كان حاضرًا بقوة في ميادين السياسة والفكر المعاصر، ودعم قضايا المستضعفين، رغم تعاطفه مع الشيوعية، رفض الانضمام لأي حزب، وزار الاتحاد السوفيتي، الولايات المتحدة، وكوبا، لكنه انتقد بشدة قمع السوفييت لثورة المجر عام 1956 في مقاله الشهير "شبح ستالين".
وفي كتابه الفلسفي الضخم "نقد العقل الجدلي" (1960)، سعى إلى التوفيق بين الوجودية والماركسية، مؤكدًا ضرورة اعتراف الفلسفة بالواقع الملموس والتجربة الفردية، وتجاوز التنميط الأيديولوجي الجامد.
السنوات الأخيرة: عملاق الفكر حتى الرمق الأخير
خصص سارتر العقد الأخير من حياته لعمل موسوعي عن الروائي الفرنسي جوستاف فلوبير بعنوان "الأبله في العائلة"، مستخدمًا أدوات التحليل النفسي الماركسي لقراءة تاريخ فلوبير الشخصي والأدبي، لكنه لم يكمله، ورغم تراجع قدرته على الكتابة، ظل نشطًا في الميدان السياسي، يوزع الصحف اليسارية ويشارك في التظاهرات.
أصيب بالعمى واعتلت صحته، لكنه ظل حتى وفاته صوتًا حرًا ومدافعًا شرسًا عن قضايا الإنسان. في أبريل 1980، توفي جان بول سارتر عن 74 عامًا، وشيع جنازته نحو 25 ألف شخص، أغلبهم من البسطاء الذين وجدوا في فكره ملاذًا ونصيرًا، وعلى الرغم من رفضه جائزة نوبل للآداب عام 1964، لأنه لا يريد أن يُصنف أو يُؤطر، فإن التاريخ الأدبي والفلسفي لم يتوقف عن الاحتفاء به، كأحد أعظم مفكري القرن العشرين.