الجمعة 20/يونيو/2025 - 11:22 م 6/20/2025 11:22:33 PM
في الأزمنة القديمة، كان الناس يستنكرون القبح حين يمر أمامهم، ويرتجف وجدانهم حين تَطرق القسوة أبوابهم، وكان الجمال قيمة تُطلب، لا ترفًا يُستكثر، أما اليوم، فنحن في زمنٍ بات فيه القبح جزءًا من المشهد العام، لا يُسائل، ولا يُستغرب، بل يُعاد إنتاجه في صور شتى، حتى تبلدت النفوس، وصار اللا طبيعي هو الطبيعي.
لسنا هنا بصدد الحديث عن الذوق الفني وحده، ولا عن القبح البصري فقط، بل عن تشوّهٍ شاملٍ طال القيم والمعايير، والعلاقات والسلوك، والسياسة والمواقف الدولية، بل حتى ما يُسمّى "الضمير الإنساني" ذاته.
لقد أصبح القبح يسكن حياتنا اليومية، ويكفي أن تنزل إلى الشارع لتدرك حجم ما استبد بنا، من الضجيج بلا سبب، والصراخ بدلًا من الكلام، والفوضى بدلًا من التنظيم، وغياب أي مسحة من النظام أو الذوق في المرافق العامة، والوجوه التي أرهقتها الخيبة ففقدت القدرة على الابتسام.
لقد تحوّلت العشوائية إلى سلوك يومي، وكأن كل ما هو غير مٌنظم لا يُعد عيبًا بل صار هو الأصل، ويزداد الطين بلة حين نرى بعض المؤسسات، التي يُفترض أن تكون قدوة في الجمال والنظام، تعيد إنتاج ذات القبح في مبانيها، ولوحاتها، وإعلاناتها، وخطابها الإعلامي.
هناك إشكالية في مدى قبح الذوق العام وانحدار الثقافة، ولهذا الطرح قصة تعرضت لها منذ فترة، ففي إحدى زياراتي لمبنى ماسبيرو قبل ثورة يناير عام 2011، وكنت حينها أنهي تسجيل بعض أعمالي الدرامية للإذاعة المصرية، شدّني مشهد عابر لم أستطع تجاوزه… كانت هناك لافتة معلقة على بوابة وزارة الإعلام – التي كانت قائمة وقتها – وقد كُتب عليها "وزارة الأعلام"، بالهمزة فوق الألف... ووقتها لا أعرف ما الذي أصابني، لكن شيئًا في داخلي انكسر… كأنني رأيت إهانة تُسجّل في دفتر الدولة، لا على لافتة عابرة، فكلمة الإعلام – بالهمزة تحت الألف – يعني الإبلاغ والتواصل وتنوير العقول، بينما "الأعلام" – بالهمزة فوق الألف – تعني الرايات والرايات وحدها!
شعرت أن الخطأ لم يكن لغويًا فقط، بل انهيارًا في الذوق، وتراجعًا في الإحساس بالمعنى، وتهاونًا في واجهة دولة يُفترض أنها راعية للثقافة واللغة، ولم أملك إلا أن أصعد السلم إلى مكتب الوزير، مدفوعًا لا بغضبٍ شخصي بل بحرقة المثقف، وطلبت مقابلة الوزير، وقوبل طلبي طبعًا بالصد والتعطيل، فمدير مكتب الوزير أراد أن يعرف السبب لمقابلة الوزير، ولكني رفضت أن أشرحه لغير الوزير نفسه.
وأمام إصراري، تم إدخالي إلى وكيل أول الوزارة، الذي استقبلني بوجهٍ ثقيل، بعد أن نُقل إليه خبر "إلحاحي الغريب" دون أن يعرف السبب. وعندما رويت له ما أثارني، انفعل بشدة، ونظر إليّ باستغراب يصل حد الازدراء، كأنما فجّرت في عقله الرسمي قنبلة من العبث، وشعرت وقتها أنه على وشك أن يطلب مستشفى العباسية، ليرسل فريقًا يُلبسني القميص الأبيض، ويدخلني عنبر فاقدي الأهلية! لكنه قال لي بوجه عبوس: "معقول ده سبب تقابل عشانه وزير؟!"، وأنهى المقابلة من طرفه وكأنني أضعت وقته الثمين.
هكذا كان يرى مسئول يدير إعلام الدولة التي تحمل إرث الحضارة واللغة، صوت المثقف جنونًا، لا غير، ويُعامل المثقف ككائن مزعج لا قيمة لغضبه ولا لصوته، فهو يرى في خطأٍ لغوي فادح أمرًا تافهًا، كأن الدفاع عن اللغة تهمة، والغضب من قبحٍ مٌعلّق على بوابة وزارة، نوعٌ من الاضطراب العقلي!
وقتها أدركت خطورة القبح حين يتجلى في أبسط أشكاله، لا في خطأ نحوي، بل في عقل لا يدرك خطورته.
لقد باتت الرداءة تتسلل من كل نافذة، وقد نراها متجسدة في أغنية ضحلة تصبح الأكثر استماعًا، ومحتوى سخيف يتصدر التريند، أو حوار السوق يُبث في ساعات الذروة، وشخصيات بلا مؤهلات تحاضر في الناس وتدير مصائرها، بينما تختفي الأصوات العاقلة في الزوايا المظلمة.
إن ما يحدث ليس مجرد غياب للجمال، بل هو ترويج ممنهج للقُبح باعتباره "واقعيًا"، وتهكم على الجمال باعتباره "مثاليًا" أو "نخبويًا" أو "قديمًا". وهكذا أصبحنا في عالم يستهزئ بالقيمة، ويصفق للفراغ.
وكم من المؤسسات ساهمت في ترسيخ القبح، وقد نجد على سبيل المثال، المؤسسات التعليمية - التي يُفترض أن تربي الذائقة السليمة إلى جانب العقل - لم تعد تفرّق كثيرًا بين التلميذ النابغ والآخر الغائب، وأن المدارس ومؤسسات التعليم صارت مسارًا شكليًا للحصول على شهادة، لا لتشكيل إنسان.
بل إن بعض المؤسسات الدينية والثقافية، التي كانت حائط صدّ ضد الانحلال أو الابتذال، صارت إما غائبة، أو عاجزة، أو مهادنة، أو في بعض الأحيان شريكة في تمييع القيم.
أما الأكثر خطورة، ما نراه من قبح السياسة حين تقتل الجمال في الإنسان، فقد تجاوزت عدوى القبح حياتنا اليومية، وأصبحت مبدأً دوليًا خفيًا في إدارة العالم. فقد باتت الحروب تُبرَّر، والمجازر تُناقَش، وحقوق الإنسان تُفرَز حسب الموقع الجغرافي، والدم يُقاس بلون جواز السفر، وعلى أثر ذلك رأينا العالم يتثاءب أمام مشاهد إبادة شعب كامل في غزة، وكنا شهود عيان على الدول "المتحضرة" وهي ترسل قنابل فانية للوجود البشري، ثم تكتب بعد ذلك تقارير حقوقية تدافع فيها عن حقوق نفس الإنسان الذي تقوم بإبادته، وكنت أسأل نفسي دائما: لماذا يبدو القاتل محترمًا ما دام قويًا، بينما يُطلب من الضحية أن تكون "حضارية" وهي تُذبح؟
إنها ذروة القبح… حين يتحول الاحتلال إلى "دفاع عن النفس"، ويتحوّل الطفل المذبوح إلى مجرد رقم إحصائي، ويتحوّل المجتمع الدولي إلى آلةٍ باردة تنظر ولا ترى، تسمع ولا تُنصت.
لم يأتِ هذا القبح فجأة، بل تسرّب تدريجيًا من خلال الاعتياد؟ عبر الصدمة الأولى التي اجتزناها حتى تعودنا على القبح الذي أصبح عادة لكثرة ما رأيناه، ثم أصبح التطبيع مع هذا القبح جزءًا من حياتنا، بل صار بعضنا يدافع عنه أو يراه طبيعيًا.
هذه الدورة النفسية الخطيرة تُفقد الإنسان حاسة التذوق، ومن لا يتذوق الجمال، يصعب عليه أن يقاوم الظلم، أو يتمسك بالقيم، أو حتى يحزن على القبح.
فماذا نفعل إذن في مواجهة هذا القبح الذي تسلل إلى العقول؟
إن الخطأ لم يكن في الهمزة التي لا تستحق مقابلة وزير، بينما الحقيقة أن ما سقط لم يكن الحرف بل الهيبة والوعي؟ وليس المطلوب أن نعود إلى الوراء، بل أن نستعيد الحاسة المفقودة فينا، حاسة الدهشة، والإنكار، والرفض لكل قبح… أن نربّي الطفل على التمييز بين الجميل والقبيح، بين العدل والظلم، بين الفن والحشو، بين القوة النبيلة والبطش القبيح.
لا بد أن نعيد تعريف الجمال على أنه قيمة كبرى، لا ترف بسيط، وأن نؤمن أن الحضارات لا تنهار فقط حين تُقهر عسكريًا، بل حين تتعود على القبح، وتستسلم له، وتتوقف عن الحُلم بالنظافة، والعدل، والنُبل، والنور.
إن مقاومة القبح تبدأ من الذوق، لكنها لا تنتهي عنده، وتبدأ من الامتعاض من أغنية هابطة، لكنها تنتهي بالثورة على موت الضمير العالمي، تبدأ من مشهد في شارع، وتنتهي بمشهد في الأمم المتحدة.
فإن لم نعد قادرين على الغضب من القُبح، فكيف سنعود يومًا إلى الجَمال؟ وهل تبقى لنا إنسانيتنا إن صارت كل هذه الفظائع "مألوفة"؟