مارسيل مارينا… صفحة من الجمال الصامت

الخميس 19/يونيو/2025 - 07:31 م 6/19/2025 7:31:43 PM

فى زمنٍ ازدحمت فيه الصور وتاهت الأصوات فى ضجيج الأداء، بقيَ هناك حضور نادر لا يحتاج إلى كثيرٍ من الكلام.. حضور يُشبه الضوء الخافت الذى لا يُرى إلا بالعين المرهفة. مارسيل مارينا من أولئك الذين لا يفرضون أنفسهم على الذاكرة، بل يدخلونها كأنهم جزءٌ منها منذ البداية.
ليست ممثلةً فقط، بل امرأةٌ تمشى داخل الدور كما تمشى الصلاة فى الروح. مارسيل مارينا، الوجه الذى لا يصرخ ليلفت، بل يهمس فيبلغ، كانت دائمًا من تلك النُخبة النادرة التى تؤمن أن التمثيل فعلُ إنصاتٍ قبل أن يكون أداءً، وأنّ الفنّ مساحةٌ للكرامة، لا للضوء السريع.

فى المسرح، بيتها الأول، وقفت كما تقف الأشجار فى وجه الريح: ثابتة، أنيقة، جذورها عميقة فى النص، وفروعها تُطاول المعنى. لم تكن تخاف النصوص الكبرى، فقدّمت الملك لير، والليلة الثانية عشرة، والسلطان الحائر، بشغف العارفة وصمت المحترفة. خشبة المسرح لم تكن مساحة لعبٍ لها، بل محرابًا، وكانت تدرك أن الدور الجيد لا يُجيده إلا من يخسر نفسه ليكسب الحقيقة.
وفى الدراما التليفزيونية، كان لها حضور متجدد ومستمر، ومن أشهر تجاربها برنامج «الأمانة» الذى امتدّ لثلاثين حلقة، وصُوّر فى اليونان على مدار ثلاث سنوات، وحظى بأصداء واسعة فى الوطن العربى من ليبيا إلى المغرب العربي. بهذه التجربة، برهنت مارسيل على قدرتها على العطاء المتواصل فى سياق درامى كبير ومعقد.
كما قدّمت أدوارًا فى مسلسلات أخرى مثل المشوار الطويل، والأمانة التى أضافت بُعدًا خاصًا لمسيرتها التليفزيونية، وأثرت فى وجدان الجمهور، ليس فقط بحجم الأدوار، بل بصدق الأداء وعمق الشخصية.
أما فى السينما، فقد عرفت حضورها منذ البدايات، فشاركت فى أفلام مثل «غارو»، و«وداعًا لبنان»، و«فندق الأحلام»، مسجّلة حضورًا لبنانيًا أنيقًا فى زمنٍ كانت فيه السينما المحلية تخطّ أول سطور هويتها. كما تركت بصمة لا تُنسى فى فيلم بنت الحارس مع الرحابنة، حيث قدّمت دورًا رقيقًا ومؤثرًا، يحمل دفء الإنسانية وبساطة الروح، مكللًا حضورها بجانب السيّدة فيروز بألوانٍ من العذوبة والقرب من القلب.
كانت مارسيل ترفض المبالغة، وتؤمن أن الصدق وحده يُقنع الكاميرا.
وصوتها.. ذلك الصوت الرخيم الحنون، صار صديق طفولةٍ لكثيرين منّا، حين شاركت فى أعمال دبلجة طبعت وجدان أجيال. بصوتها، كانت تبنى العوالم، وتُلبس الشخصية نفسًا لا تُنسى، وتحمل إلينا الحكاية كما تُروى للأطفال فى حضن الأم.
مارسيل مارينا لم تكن يومًا أسيرة مجدٍ مُعلن، بل شاهدة على زمنٍ كان الفنّ فيه التزامًا لا استعراضًا. لم تُكثر من التصريحات، ولم تتعقّب الأضواء، لكنها تركت أثرًا يشبه البصمة فى الوجدان: لا يُمحى، ولا يُقلَّد. هى تلك الصفحة الهادئة التى يُقلبها الزمن بحذر، لفرط ما فيها من جمالٍ ونقاء.
وهى لا تزال اليوم، رغم المسافة، ممثلةً يعرفها الجيل العتيق، ويكتشفها الجيل الجديد بدهشة:
من أين جاءت هذه المرأة التى تُجيد الصمت كما تُجيد النطق؟ التى تمثّل كأنها تهمس فى ضمير العالم؟

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق تقديرا لرسالته الإنسانية.. محافظ أسوان يهدي مفتاح المدينة للدكتور مجدي يعقوب
التالى في عيد ميلادها.. تعرف على سر اعتزال الفنانة نورا